أرواد ذاكرة المكان والإنسان-4: مجتمع محافظ يضع حدودا للهو والشراب.. ولا يعرف المتة ولا يضيق بالغريب

أرواد ذاكرة المكان والإنسان-4: مجتمع محافظ يضع حدودا للهو والشراب.. ولا يعرف المتة ولا يضيق بالغريب

في هذه الحلقة سأعرفكم على المجتمع الأروادي، ما يتقبله وما يرفضه، ما يعرفه وما لا يعرفه في يومياته، ما يجمعه مع بقية المجتمعات الأخرى في وطننا السوري، وعما يميزه عما سواها، وعن علاقة بنيته العمرانية، آثاره، مع تقاليده وأعرافه. 

أدرك أن ما سأطرحه من أفكار قد يبدو إشكالياً بشكل كبير، لكن إيماني بأهمية تأريخ مجتمعاتنا، وتسجيل لحظتنا التاريخية التي نعيشها، لكل مكونات المجتمع السوري مفيدة جداً لنا، كي يفهم كل (متحد) بقية المتحدات على امتداد وطننا، على حد تعبير المفكر السوري أنطون سعادة  وسأناقش كل ذلك في نقاط أربع، أعتقد أن من خلالها ممكن فهم سيكولوجية المجتمع الأروادي بشكل أفضل

صراع المحافظة والمجون في المجتمع الأروادي

هل سبق لكم وأن زرتم أرواد؟ أول ما تصلون سيدخل المركب (اللانش للمراكب الكبيرة والفلوكة للصغيرة باللهجة المحلية) في المرفأ، هذا المرفأ يشكل حماية للكورنيش من نوبات هياج البحر، أو ما يعرف بـ(النو)، وهي حماية افتقدتها الجزيرة خارج سوره، لذلك تبتعد البيوت عن البحر وغضبه، و يترك الأرواديون مساحة كبيرة من محيط الجزيرة بلا بيوت، وتتجمع هذه البيوت في منتصف أرواد بشكل متلاصق، لدرجة جعلت هذه الأماكن عبارة عن أزقة ضيقة تشبه أزقة دمشق القديمة، يوجد الكورنيش في الجهة المقابلة لطرطوس (جهة شرق أرواد)، وعليه جميع المقاهي والمطاعم تقريباً، أما الجهة الأخرى (الغرب) ففيها بقايا السور الفينيقي، وهي الجهة الأكثر خطورة أثناء غضب البحر، لذلك بقيت مساحات صخرية واسعة نسبياً مهجورة تماماً، بلا أي إنارة ليلاً، ولا يرى من بداخلها حين يحل الظلام.

ما علاقة كل ذلك بشرب الخمر؟ بما أن المجتمع الأروادي محافظ نوعاً ما، فلا يسمح بشرب الخمر، لكنه أيضا مجتمع تجاري براغماتي، ومتفهم لحقيقة وجود مجموعة من الناس غير الملتزمين دينياً، هذه المجموعة يتقبلها المجتمع بشرط احترامهم للمناطق السكنية المتمركزة في وسط الجزيرة، لذلك يلجأ جميع من يرغب بشرب الخمر أو تعاطي الحشيش، إلى المناطق المظلمة، في الجهة المعاكسة لطرطوس، في المناطق الغربية من أرواد (راح يسهر ع الغرب)

فالمجتمع الأروادي يتعامل بتحفظ وبقدسية مع بيوته ومناطقه السكنية، على من يسير بأزقتها أن يحترم المجتمع وتقاليده، وليفعل من يشاء ما يشاء، لكن خارج حدود حرمة الأسر والمناطق العائلية، هناك في الظلام الدامس، وحين يعود ليدخل المناطق السكنية مرة أخرى، عليه أن يكون بكامل وعيه وبسلوك الصاحي الخاضع تماماً لكل المعايير الاجتماعية السائدة. 

هذا السلوك يذكرني بعلاقة المجتمع القديم في أثينا مع الجيش، فالمجتمع مدني ويرفض العسكرة، لكنه يعرف أنه لا بد من الجيش نتيجة قوة الدولة الزائدة، فقبل بوجوده لكن خارج حدود المدينة، أما أثينا نفسها فهي مجتمع مدني، وعلى الجنود ترك أسلحتهم ولباسهم العسكري عند حدود المدينه، على نفس المبدأ يدرك الأرواديون أن لبعض الشباب طاقة، ربما يرغب بالرقص والشرب، ممكن أن يتقبل المجتمع هذا، لكن خارج حدود العائلات. 

لذلك لم يكن مستغرباً حينما كنا أطفالا، أن نسمع أحياناً صوت غناء وسكر في مناطق الظلام هذه، لكن نادراً ما كنا نرى سكارى في الأزقة، ومن يفعلها غالباً هم فقط الكحوليون، من سيطر عليهم المشروب لدرجة التضحية بمكانتهم الاجتماعية، وغالباً ما كان المجتمع أيضاً قادراً على التعامل معهم واحتوائهم، هذا عندما يتعلق الأمر بالخمر أو الحشيش!

أما حفلات الرقص وما تجاوز ذلك، فيلجأ الأرواديون عادة إلى خارج الجزيرة تماماً، إلى جزيرة (الحبيس) وهي جزيرة صغيرة غير مسكونة، تقع على بعد عدة كيلومترات من أرواد ، يستخدمها الأرواديون كمناطق للسباحة العائلية نهاراً في الصيف، ولبعض حفلات السمر حين يحل الظلام، و هكذا تكون المسافة عن البيوت أبعد وأبعد، وبالتالي مساحات الحرية أكثر رحابة. 

في أرواد خمارة واحدة فقط تقع في بداية الكورنيش، وهو بناء من طابقين، ممكن أن يُشرب الخمر أيضاً فيه، لكن في الطابق الثاني وبشكل بعيد عن أعين الناس.

لا متة في أرواد ولا من يشربها!

من أغرب المظاهر التي لم أفهمها أبداً، هو سر اختفاء المتة من أرواد، والغرابة هنا لا ترتبط بعدم شرب المتة فقط، بل بعدم معرفتها طوال فترة طفولتي التي قضيتها هناك، لم أسمع بهذه الكلمة أبداً. وأول مرة رأيت بها هذا المشروب، كنت  في عمر الخامسة عشر، عندما رافقت أخي في زيارة إلى إحدى قرى الساحل، وهنا رأيت كأس المتة أمامي مع الماء الساخن ودون أي مقدمات، فاستغربت من هذا المشروب وهذه المصاصة، وارتبكت ولم أعرف كيفية شربها، و حين رأيت أحدهم يضيف السكر، أضفته أيضاً وحركت السكر بالملعقة، هنا انتاب الجميع نوبة ضحك! 

ربما يعتقد الكثير من أهالي دمشق، أن شرب المتة في طرطوس يقتصر على العلويين فقط، لكن الحقيقة أن جميع سكان الساحل يشتركون في عشق هذه النبتة (سُنة، علويون، إسماعيلون، والمسيحيون بكل طوائفهم) باستثناء أرواد!!!

وحين سألني طفل بعمر ١٠ أو ١٢ عاماً يعمل في  مقهى بأرواد خلال آخر زيارة لي، عما أود أن أشربه أحببت أن أمازحه فطلبت منه متة. فنظر لي بدهشة وأخبرني أنه لم يفهم ما أقول، هل هي مشروب ساخن أم بارد؟!

لا أدري إن كانت وسائل التواصل الاجتماعي بعد هذه السنوات، قد ساعدت على تعرف الأرواديين على هذا المشروب، لكن ما أعرفه، أنه لم يسبق لي ورأيت أي صورة لكأس متة في أرواد. وهنا لا أتحدث عن رفض أو عدم تقبل، بل عدم معرفة بكل بساطة... فما الذي يشربه الأرواديون؟

مجتمع القهوة لا يشرب الشاي لوحده!

لا نعرف في أرواد مشروباً ساخناً غير القهوة، والقهوة فقط، حتى الشاي ننظر له باستغراب، فهو مرتبط لدينا بالفطور والعشاء، ولا نشربه أبداً خارج هذه الوجبات. ومن ذكرياتي المضحكة حول الشاي، أن امرأة من محافظة سورية أخرى تزوجت أروادياً وأتت لتعيش في جزيرتنا الحبيبة، وعندما زارتها بعض النسوة الأرواديات للترحيب بها والتعرف عليها، قدمت لهم الشاي بأقداح الصغيرة، فاستغرب النسوة ذلك، وفسروه أنها تريد أن تدعوهم لتناول الفطور، فرفضوا طبعاً (باعتبارها أول زيارة) فلم تفهم المرأة ما سر حديثهم عن الفطور الذي لم يكن ببالها، ولم يتضح الالتباس إلا عندما شرح كل طرف عاداته في شرب الشاي..... لقد ضحكت كثيرات من الأرواديات لفترة بعد زيارتهم لتلك المرأة التي قدمت لهم الشاي مفرداً، وأصبحت نكتة يذكرونها في مجالسهم، لكنهم بقوا معتمدين للقهوة فقط للضيافة، وتحول الموضوع إلى نكتة محلية نحكيها ونبتسم، دون أن نتذكر حتى أسماء أبطالها!

الدبكة مجهولة.. ورقصة المناديل لكبار السن

كحال المتة، لا يعرف الأرواديون الدبكة. ولا أعتقد أن حلقة دبكة قد أقيمت في أرواد منذ العصور الفينيقية إلى اليوم، لا أدري أيضاً هذا السر في عدم تقبلهم لهذا الأسلوب من الرقص، لكن من جهة أخرى، هناك رقصة تقليدية أروادية، مقتصرة على الرجال فقط (الرقص بالمحرمة أو المنديل) وتتألف من حركات بسيطة ترقص بشكل فردي، على أيقاع معين من الطبل ( بالمناسبة صاحب الطبل هو الرجل  نفسه، منذ وعيت على الدنيا وحتى آخر حفلة رأيتها في مقطع فيديو مصور شاهدته على إحدى صفحات الأرواديين) ترقص بشكل دائم في الأعراس وخاصة من كبار السن، وإفراد الساحة للكبار فقط للرقص، في هذه الرقصة تحديداً، تُعتبر وسائل تعبير الأرواديين عن احترامهم وإجلالهم لكبار عائلاتهم، فلهم فقط الساحة لفترة معينة، ثم يأتي دور بقية الشباب للمشاركة عندما يشعرون أن الكبار بالسن قد بدؤوا بالتعب، وبطبيعة الحال لا يجوز للمرأة الرقص في الحفلات إلا في الصالات المغلقة والمقتصرة على النساء فقط .

وقد برزت صعوبات و مشاكل عديدة في المجتمع الأروادي بعد انتشار التصوير بالموبايل، لكن يُعتبر تصوير حفلات النساء من المحرمات إلى الآن، ولا أعتقد أن أحداً ممكن أن يصور حفلة نساء إلا بعد إخبارهن، كي تتحجب من تريد، وتقرر كل امرأة طريقة لباسها، ولا أحد قادر على هذا الخرق، لأن الضوابط الاجتماعية صارمة في هذا المجال، واختراقها انتحار اجتماعي لمن يفعلها.  

مجتمع لا يضيق بالغريب ولا يعرف العنصرية

بالرغم من أن المجتمع الأروادي محافظ، يقدس عاداته وتقاليده، ويرفض بشدة أي تأثر بالمحيط، لكنه مجتمع مرحب جداً بالغريب ومحب له، وممكن لأي كان، حتى لغير السوريين أو غير العرب، الاندماج بسهولة في هذا المجتمع. فقد جاء إلى أرواد مدرسون، موظفون، وتجار من مختلف المحافظات السورية، من كل الأديان والطوائف ومن الجنسين، استأجروا بيوتاً وسكنوا في أرواد، ولا أذكر أبداً أي تعليق من أي أروادي، سوى التعليقات التي ملؤها المحبة.

ربما محبة الغريب، وعادات الضيافة، جعلت من وجود فنادق في أرواد مشروعاً غير عملي بالمرة، فإذا احتاج أو رغب الغريب في قضاء يوم، غالباً ممكن أن يجد عائلة ما تستضيفه، وسيؤمن له مكان، خاصة العائلات التي تملك بيوتاً كبيرة، لها عدة مداخل، كي يتم الفصل بين العائلة والضيوف مراعاة لقيم المجتمع المحافظ والمنفتح على طقوس الضيافة في الآن نفسه. 

ونتيجة حركة التجارة، فقد حصلت زيجات كثيرة مع لبنانيات ومصريات وتركيات ونساء من رومانيا وروسيا واليونان، جميعهم استقروا في أرواد، أو في المجتمع الأروادي في طرطوس دون أي عائق، بل والكثيرات أصبحن يتحدثن العربية باللهجة الأروادية المحببة ،ولا أحمل في ذاكرتي أي انتقاد لأي قادم أو قادمة من مجتمع آخر، حتى كلمة الآخر، لا أعتقد أن لها صدى في العقلية الأروادية، لم تدخل حديثهم ولا وعيهم، لا خوف من أي احتكاك مع الآخر، بدءاً من التجارة وحتى الزواج 

عندما انتقلت لاحقاً إلى طرطوس، ثم سافرت كثيراً وتعرفت إلى مظاهر العنصرية وكره الآخر في أماكن كثيرة في سوريا والعالم، كنت دوماً أسأل نفسي: كيف حمى نفسه الأروادي من هذا الإحساس وهذا الانحطاط؟

هناك الكثير من الناس الذين قدموا إلى أرواد معدمين ساعدهم الناس، أسسوا أنفسهم وأصبحوا لاحقاً من الشخصيات المؤثرة في المجتمع الأروادي، كيف لم يثر نجاحهم أحداً، ولم يمارس ضدهم أي تصرف عنصري؟

هناك الكثير من الباعة المتجولين، كانوا يقصدون أرواد نتيجة البحبوحة الاقتصادية النسبية للأرواديين مقارنة بالمحيط ، كيف لم يستفز هذا بقية الباعة المتجولين في أرواد ؟ بل كثيراً ما كان يتلقى الغريب دعماً أكبر من ابن البلد لأنه غريب، و يجب دعمه، حتى كلمة غريب، ستعني أول ما تعني في الذهنية الأروادية: "شخص يستحق المساعدة"

ربما لن أكون مبالغاً إذا قلت أن المجتمع الأروادي أكثر مجتمع، ممكن أن ينصهر فيه الآخر، وسيتلقى كل الدعم، وهذا ليس عائداً لوعي سياسي أو اجتماعي، بل بكل بساطة للفطرة الخالصة.

كم كنت أود أن أذكر أمثلة لقصص وشخصيات تحتل جزءاً مهماً من الذاكرة الأروادية، لكنهم ليسوا أرواديين، بل قدموا إليها في شبابهم.  بعضهم بقي وأصبح  أولادهم أرواديين تماماً، بعضهم سكنوا لسنوات ثم عادوا إلى بلداتهم الأصلية، ومازالوا يحتفظون برابطة قوية مع الأرواديين 

أحيانا لا نحتاج الوعي لنعيش سوياً ويتقبل بعضنا الآخر، بل ما نحتاجه بكل بساطة، هي إنسانيتنا وجوهرنا النظيف المتسامح.

الحلقة الخامسة السبت القادم

 

التعليقات (2)

    Abu Ali

    ·منذ سنة 7 أشهر
    I understand no matte, because the streets are very narrow and no place to sit in front of your home to drink matte

    حمصي مهاجر

    ·منذ سنة 7 أشهر
    جمال الوصف حتى بأدق التفاصيل عن ارواد الجميلة يجعلني أتساءل كيف تصلكم الكهرباء وانتم في وسط البحر و كم عدد سكان هذه الجزيرة و كيف يتم التنقل بين الحارات ؟ و اختم بالقول كم انت جميلة و مظلوم شعبك يا سورية !!! فيكي البحر و الجبال و الصحراء و البترول و الغاز و كل مقومات الحياة العزيزة و رغم ذلك الشعب فقير و يعمل في دول الجوار كالأردن و لبنان و الخليج لتأمين لقمة العيش و ذلك ليس بجديد و بالتحديد منذ أن استلم حزب البعث السلطة في سورية
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات