إدارة الضعف عوضاً عن التزلّف والاستزلام

إدارة الضعف عوضاً عن التزلّف والاستزلام

يرتبط السلوك الإنساني إلى حدّ كبير بعدة عوامل أو محدّدات، منها ما له علاقة بالثقافة، ومنها ما هو تبع للظروف الاقتصادية، وهناك عوامل أخرى لها علاقة بالنظام السياسي. تتداخل هذه العوامل وعوامل أخرى فيما بينها لتكون لها الكلمة الفصل في طبيعة سلوك الأفراد في المجتمعات الإنسانية، ففي المجتمعات المتخلفة تشيع بعض السلوكيات المستهجَنة كالتزلّف والاستزلام، أي التقرب إلى ذوي المكانة بمهانة وتذلّل، واتباع الزعامات بشتى أنواعها بتذلّل أيضاً. ويربط الدكتور مصطفى حجازي هذه الظاهرة بالقهر الذي يرزح الإنسان في البلدان المتخلفة تحت وطأته، إذ تتكالب عليه قوى الطبيعة التي تمارس عليه اعتباطاتها، والممسكون بزمام السلطة في مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ، فلا يجد الإنسان المقهور من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الوقوع في الدونية كقدر مفروض. من هنا شيوع تصرفات التزلّف والاستزلام، والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاء لشرّه أو طمعاً في رضاه.

نفاق الأفراد... ونفاق الدول!

في مقال سابق بعنوان "دروس في التحليل السياسي المبسّط" تم التطرق إلى الشبه الكبير في السلوك بين الأفراد والجماعات على المستوى الاجتماعي من جهة، وسلوك الحكومات أو الدول في العلاقات الدولية من جهة أخرى. ومن خلال السياق ذاته يمكننا القول: إن سلوك التزلف والاستزلام الذي يلاحَظ لدى أغلبية الأفراد في المجتمعات المتخلفة، هناك ما يشبهه على مستوى العلاقات الدولية، إذ يُضطر الكثير من حكام الدول الصغيرة أو الدول الضعيفة، أو حتى الجماعات المتمردة إلى سلوك يتسم بالتزلف والاستزلام نتيجة لظروف مماثلة ولأسباب مشابهة.

إذن، فالاستزلام والتزلف هو سلوك يرتبط بالضعف والحاجة والخوف، وهو سلوك نفعي محض فيه نيل للرّضا واتقاء للشر، وربما المحافظة على البقاء في كثير من الأحيان. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تبدو الصورة حتى الآن وكأنها مجرد حركات وتعابير يستطيع الضعفاء من خلالها الاحتيال على الأقوياء، إلا أن القضية أكثر تعقيداً؛ إذ يتوجب على المتملّق المستزلم تقديم الكثير من التضحيات خلال حياته الوضيعة. من بينها؛ أن يكون أداة ووقوداً للصراعات بين الأقوياء الذين يتصارعون ويتنازعون من أجل الثروة والمجد والنفوذ والسلطة عبر أزلامهم الذين لا يمتلكون حق الاختيار أو رفض الانخراط في هذه الصراعات.

الصغار بين صراعات الكبار

الأسوأ من هذا وذاك، أن الصغار عندما ينخرطون في تلك الصراعات الدائرة بين الكبار؛ هم نتيجة معارفهم وخبراتهم المحدودة لا يعرفون طبيعة تلك الصراعات وأبعادها، والأهم من ذلك: هم لا يعرفون مداها. فعلى سبيل المثال: ربما يعتقد الأوكرانيون وحكومتهم أن الغرب الذي يقف خلفهم في حربهم مع روسيا بكل قواه حتى هزيمة روسيا سيبقى يقدم الدعم لهم إلى أن يحرروا كافة الأراضي التي احتلتها روسيا بما فيها جزيرة القرم كما يعتقد غُلاة المتفائلين. إلا أن الأمر لن يكون كذلك في أحسن الأحوال، فمفهوم هزيمة روسيا لدى الغرب هو مجرد التراجع عن عنجهيتها، وهو مجرد إظهار نوع من التراجع أو الوهن. وقتها سيتفاجأ الأوكرانيون بتوقف الدعم عنهم لإرغامهم على قبول الحلول التوافقية، والتي تبتعد كثيراً عن مستوى الحد الأدنى من رغباتهم. 

في واقع الأمر، للأقوياء والكبار لغتهم الخاصة التي يتفاهمون بها، ولهم قيمهم الخاصة ومعتقداتهم الخاصة ومصالحم الخاصة التي نادراً ما يفهمها الضعفاء. لذلك، فهم (الضعفاء) في أثناء انخراطهم في بعض الصراعات تعتريهم بعض مشاعر الرجولة والعزة بالنفس والإحساس بالانعتاق من قيود القهر المعتاد، لكن النهايات غير المتوقَّعة، في أغلب الأحيان، تجعل القهر مضاعَفاً، فلا أحلامهم تحققت ولا تضحياتهم أثمرت، وفوق كل ذلك اكتشفوا أنهم لم يكونوا إلا مجرد وسيلة للصراع بين من هم أكبر منهم.

البعض، على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات، رغم ضعفهم يحاولون التملص من هذا الاستحقاق الذي يفرضه الضعف، فهم يبتعدون عن مثل هذا السلوك الذي ينتقص من الكرامة، فيجدون أنفسهم في بيئة هامشية لا يستطيعون مغادرتها. وهكذا، فالهروب من التبعية يُلقي بالضعفاء إلى عالم الظل والهوامش، وحتى هذا العالم، رغم تواضعه، يحتاج الكثير من الجهد والصبر والمناورة لكي يستمر، فعين أصحاب السلطة والنفوذ دائماً ترقب هؤلاء بانتظار بعض السقطات أو الورطات التي لا بد أن تأتي بهم صاغرين لطلب العون، ومن ثم الانضمام إلى جماعات الأزلام. 

القوة والضعف حالة طبيعية

هذا هو قانون الحياة، فالناس طبقات ومراتب، وهم في حالة صراع مستمر ولم تستطع أرقى القوانين أو الأنظمة السياسية أو الاقتصادية الوصول إلى العدالة والمساواة بالمعنى الحرفي للكلمة، فعلاقات التبعية والتراتبية الاجتماعية موجودة في أرقى المجتمعات، وهي موجودة بين أرقى الدول وأكثرها تقدُّماً. كل ما في الأمر أن تعاظم سلطة القانون في تلك المجتمعات والبلدان حجمت من حدة التسلط والقهر ليستبدل سلوك التزلف والاستزلام، بسلوك أقل تقزيماً لكرامة الإنسان، تحت مسميات أخرى كالتعاطف والتقارب والتحالف والتكاتف والعمل المشترك وغيرها.

إذن، فالقوة والضعف بدرجاتهما المختلفة حالة طبيعية، وهما حسب رواية التاريخ لا يدومان، لكن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، أو من مستوى إلى مستوى آخر يستغرق وقتاً يطول ويقصر حسب إدارة الحالة، سواء كانت إدارة القوة أم إدارة الضعف، وكما إن الإدارة الناجحة للقوة تطيل في عمرها واستمراريتها، تستطيع الإدارة الناجحة للضعف أن تجعل عمر الضعف قصيراً، ولعل أهم مهارة يمتلكها المرء في إدارته لمرحلة الضعف هي المقدرة على تحديد موقعه في سلّم التراتب الاجتماعي أو الدولي بدقة، إذ تعتبر المبالغة في تقدير الضعف مَدعاة لليأس والاستسلام. وبالتالي مزيد من التزلف والاستزلام، بينما يُعد اعتقاد الأفراد أو الجماعات أو الدول بامتلاكهم قوة أكبر من حجم قوتهم الفعلية نوعاً من إلقاء النفس إلى التهلكة. 

كل ما نريده نحن السوريين فريقاً ماهراً في إدارة ضعفنا بعيداً عن التزلف والاستزلام، فالضعف تجربة مروّعة. العقلاء يخرجون منها أقوياء، ويخرج منها الحمقى فاقدي كل شيء.    

 

التعليقات (3)

    برقاني

    ·منذ سنة 7 أشهر
    كل ما نريده نحن السوريين محاكمة هؤلاء عن اي إدارة ضعف تتحدث يا رجل

    رواد ابراهيم

    ·منذ سنة 7 أشهر
    خاصية الاستزلام والتبعية تتحول الى نوع من حالات الازمان المستعصي خاصة حين تسنح لها فرصة الخلاص والتحول إلا أنها تلجأ الى البحث عن مصادر قوة أخرى تتستر خلفها لتجدد اساسيات وجودها

    يوسف اليوسف

    ·منذ سنة 6 أشهر
    هذه ليست مقالة فحسب انها تحفة فنية فلسفية سياسية احييك استاذ مصطفى
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات