رواية (مسرح العمى) لأحمد خميس: عمى العيون أم عمى القلوب التي في الصدور؟

رواية (مسرح العمى) لأحمد خميس: عمى العيون أم عمى القلوب التي في الصدور؟

إنّ المتتبّع لسير تطور الفن الروائي منذ ولادته يلاحظ أن الرواية العربية دخلت كل مجالات الحياة العربية, فقد قدّمت البيت والأسرة العربية, وأزمات ومشاكل الحياة التي تعانيها, من قصص حبٍّ وحقد وثأر.. الخ, ولم تكتفِ بذلك, بل قدّمت صوراً من نضال الشعوب ضد الاستعمار والاستبداد, حتى ظهر ما يُسمّى بـ"أدب السجون" الذي تصدّر قائمة كتابه غالباً أدباء عانوا مرارة السجن والاعتقال التعسّفي, فكانت كتاباتهم تأريخاً لمرحلة من مراحل حياتهم.

ولعلّ العمى كعاهة تصيب أعين الإنسان لم تكن موضوعاً رئيسياً تطرّقت إليه الرواية العربية في العموم, وهذا لا يعني أن شخصية الأعمى لم تكن حاضرة مطلقاً, بل كان لها حضور في كثير من الروايات, ولكنه حضور ثانوي في الغالب إذا استثنينا رواية الأيام لطه حسين, وهي رواية طويلة تُعدّ بمثابة سيرة ذاتية له شخصيّاً منذ طفولته وحتى بلوغه.

العمى بطل الرواية

وفي هذا السياق يمكننا القول إنّ رواية (مسرح العمى) للكاتب السوري أحمد خميس الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر عام 2021م, من الروايات القلائل التي اتخذت العمى موضوعاً رئيسياً لها, على الرغم من أن أبطالها أغلبهم مبصرون لا يعانون العمى الحسّي, بل هو العمى المعنوي الذي يعاني منه ملايين البشر حولنا في هذا العالم. يقول الكاتب أحمد خميس في مقدمته لروايته: كتبت عن العمى في روايتي هذه؛ لأنني أعمى على الرغم من أنني أمتلك القدرة على رؤية الأشياء.

إن العمى ليس مفهوماً مجرداً لمجرد أن نقول إنه حالة إنسانية يعاني منها الكثير من الناس حول العالم, فالعمى الأكثر شمولية, والذي يرمي إليه الكاتب, هو عمانا نحن من نعتقد أننا مبصرون, فليس بالضرورة ألا ترى بعينيك لتكون كفيفاً.

تدور أحداث الرواية ما بين النرويج والولايات المتحدة الأمريكية, وشخصياتها الرئيسية التي تقود الحدث الروائي من أوله إلى نهايته في أغلبها عربية, شباب عرب اضطرتهم ظروف بلادهم العربية إلى مغادرة أوطانهم بحثاً عن الأمان في بلاد أخرى؛ لتحقيق أحلامهم التي حملوها معهم ليس في حقائب السفر, بل في قلوبهم.

نستطيع القول إن الشخصية الرئيسية في رواية مسرح العمى غير واضحة تماماً في البداية, فهي تبدأ مع مجموعة من الشباب العرب الذين ينتمون إلى بلاد مختلفة من الوطن العربي الكبير, جمعتهم الغربة وأحلام الشباب التي لا تعرف الحدود.

سوري ولبناني ومصري وسوداني وأردنية

عطا السوري وبطرس اللبناني ونوح المصري وغازي السوداني وسارة الأردنية من أم مكسيكية, مجموعة أصدقاء يحمل كل واحد منهم قصة في جنبات قلبه, تجمعهم فكرة تأليف مسرحية عنوانها مسرح العمى, بطلها شاب ضرير اسمه يونس يعيش مع أمه وأبيه في مزرعة بعيدة نسبياً عن المدينة المجاورة, تجمعه الصدفة بخاطرة الفتاة التي مات أبوها وتركتها أمها وحيدة في هذه الأرض المقطوعة, فيدفع ذلك والد يونس إلى التعاطف معها ودعوتها للعيش معهم, فتوافق على ذلك, وتنشأ على إثر ذلك قصة حب عفيفة بين خاطرة ويونس الضرير, وبعد موت أم يونس يقوم والده بطلب يدها عروساً لابنه يونس, وتنتهي الأحداث في ليلة العرس, حيث يمتطي العروسان الحصان أدهم ويطيران في هذا الفضاء الرحب من الغابة.

يحلم عطا باعتباره المؤلف الرئيسي للمسرحية أنه وأصدقاءه سيحققون حلمهم بتمثيلها في مسرح "برودواي" في الولايات المتحدة الأمريكية طامحاً إلى عالم الشهرة والمال.

عطا الذي يُعدُّ قائد المجموعة في التاسعة والعشرين من عمره, والذي سنكتشف فيما بعد أنه الشخصية الرئيسية في الرواية, وأن خيوط الأحداث المتفرقة في البداية تجتمع عنده في النهاية, هو مدمن أنترنت, قراءة, ويتعاطى قليلاً من الكحول, التحق بأكاديمية نيويورك للتمثيل وتخرج منه عام 2013م, جاء إلى أمريكا منذ خمسة وعشرين سنة رفقة والده "واثق الدرّاب" المهرّب الذي جنى أموالاً طائلة من تهريب السجائر والمواد الغذائية والآثار, بعد أن كان سائق شاحنة بسيطاً على خط حلب الرقة, كان عطا على خلاف طويل مع والده أدى إلى مقاطعته نهائياً وعدم الرد حتى على اتصالاته؛ لأنه يخفي عليه سرّ وفاة والدته التي اسمها جهينة.

مفاجآت من العيار الثقيل

يرسم الكاتب شخصيّاته بريشة رسّام, بحيث يجعلها حيّة تنبض بالحياة في مخيلة القارئ, فعطا الشخصية الرئيسية نحيل أبيض البشرة يتجاوز طوله مترا وثمانين سم, شعره طويل أسود يتصل بلحيته الطويلة أيضاً, لا يُرى من وجهه إلا وجنتان, وعينان عسليتان, وجبهة عريضة ملساء.

عطا المقاطع لوالده لمدة طويلة بسبب سر وفاة والدته يجد نفسه مع أصدقائه الحالمين مثله أمام مفاجآت من العيار الثقيل, حيث جمعتهم الصدفة كما يظنون برجل أعمال أمريكي يدّعي أنه ضرير, وهو ليس كذلك,  يُدعَى هذا الرجل "يانس كلوفر", حيث يفتح أمامهم آفاق المستقبل المشرق بتشجيعهم وتبنّي تنفيذ أحلامهم, ولكي يجعل من وعوده واقعاً ملموساً جعلهم يتحدثون عبر اتصال فيديو مع مخرج فلم التايتنك "جيمس كامرون", الأمر الذي جعل الشباب المتحمّسين لا يصدقون ما يحدث لهم.

قلنا إن الأحداث في الرواية تتناوب بين الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج, ففي النرويج هناك المغترب السوري الضرير المعجزة حسن ابن الرقة السورية المختص باللغة العربية, والذي يُعيّن مدققاً لغويّاً في دار نشر اسمها دار جهينة للطباعة والنشر, حيث يعتمد في تدقيقه على برنامج يحوّل المادة المكتوبة إلى صوت, وهذا الصوت ينطق الكلمات كما هي مكتوبة بحيث يتسنى لحسن معرفة الخطأ وتصحيحه.

العمى نافذة على عالم مختلف

حسن الضرير الذي لا يرى مطلقاً, يرى "أن العمى نافذة إلى عالم مختلف عن هذا العالم المليء بالضجيج, إنه صمتٌ صاخبٌ وصخبٌ صامت وتجديف أبديٌّ في بحر داكن", فيثير بثقافته العالية ودماثته إعجاب من حوله من العاملين في الدار وخاصة ماري التي تحبّه وتتزوج به في النهاية, فهي لشدة براعته في إدارة شؤونه, تقول له لولا أني متأكدة أنك أعمى لقلت إنك تبصر أكثر مني.

ترتقي الأحداث في تعقيدها شيئاً فشيئاً, وتبدأ عملية التشويق بالازدياد كلما تقدمنا في القراءة أماماً, فالشباب المتحمّسون إلى تحقيق أحلامهم يجدون كلّ الأبواب مفتوحة أمامهم على مصراعيها, الأمر الذي أثار استغرابهم وحتى تشكيكهم, وكلما اقتربنا من النهاية يبدأ التعقيد والغموض في الأحداث بالانفراج؛ ليتفاجأ القارئ في النهاية أنّ اللاعب الرئيسي خلف الستار, والذي تبنّى تحقيق أحلام هؤلاء الشباب هو رجل الأعمال الثري جداً واثق الدرّاب والد عطا الذي ينهار عندما يكتشف ذلك, ويقوم برفضه لولا أن أصدقاءه أصرُّوا عليه أن يسمع دفاع والده عن نفسه, ليعرف الحقيقة كاملة عن موت والدته جهينة في عملية تهريب كانت ترافق زوجها فيها, حيث أطلق عليها حرس الحدود النار, فأرداها قتيلة, ولاذ زوجها بالفرار تاركا جثة زوجته وراءه.

وكنوعٍ من التعويض النفسي لشخصه ولابنه عطا, وللعرفان والحب الذي مازال يحتفظ به لزوجته الراحلة   تبنّى واثق الدراب الكثير من الأعمال الخيرية حول العالم, ومنها دار جهينة للطباعة والنشر في النرويج, وحتى حسن الضرير الذي كان يتعاطف معه عندما كان سائق حافلة في سورية, جلبه إلى النرويج ووظّفه في دار النشر هذه.

على خُطا جوزيه ساراماغو

يمكن القول إن فكرة العمى الحسي والمعنوي التي تطرّق إليها الكاتب السوري أحمد خميس في روايته (مسرح العمى) لم تكن الأولى من نوعها, فقد سبقه إليها الكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو" الحاصل على جائزة نوبل, في روايته "العمى" التي تتحدث عن وباء يصيب إحدى المدن, فيصاب أهلها بالعمى فجأة, مما يخلق فوضى عارمة وذعراً هائلاً بين الناس, الأمر الذي دعا إلى تدخّل الجيش للسيطرة على الوضع, لكن الجيش يتخلى عن مهمته عندما تزداد الأوضاع سوءاً. تطرح الرواية فكرة العمى الفكري لدى الناس, فأخلاقهم هشة أمام العوز البشري, حيث تقول إحدى الشخصيات وهي زوجة الطبيب:"لا أعتقد أننا عمينا, بل أعتقد أننا عميان يرون, بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون". 

تنتهي رواية (مسرح العمى) بتحويل النص الذي كتبه عطا ورفاقه كمسرحية إلى فلم سينمائي ناجح حصل على جائزة الأوسكار، وعودة العلاقة بين عطا ووالده إلى طبيعتها. نهاية سعيدة في عالم لا يبصر!

لقد استطاع الكاتب أحمد خميس أن يغوص في أعماق شخصياته ليخرج منها مخبوءاتها, وليدفعنا نحن كقراء إلى استشرافها والتعاطف معها كشخصيات واقعية لها بعدها المادي والمعنوي, وهذا إن دلّ, فإنه يدلّ على براعة الكاتب في رسم شخصيّاته وجعلها قريبة من الواقع المحسوس.

التعليقات (2)

    2

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات