يتراوح فن السيرة الذاتية في رواية السيرة الذاتية (كأجراس بعيدة) للكاتب راتب شعبو بين عدم الدقة والانحياز الطائفي السافر؛ لينتج مادة جامدة يحاول شعبو أن يبعث الحياة فيها عبر عبور إنسان إلى هذه الحياة، فبدت الروح والجسد والمشاعر يصوغها على طريقة "وعي الضحية"؛ هكذا بلا حرج يكون السنّي "جلاداً" والعلوي "ضحية" لمجرد أنه علوي فقط ودون أي خلفيات سلطوية، والغريب أن التهذيب والمدنية لا تتوافق مع الأجواء غير الإنسانية المصاغة في هذا العمل.
إن محاولة خوض غمار التجربة الذاتية يُبنى أساساً على قواعد النفس البشرية ومتغيراتها، غموضها ومتناقضاتها إلى درجة يسعى فيها الكاتب إلى مجاراة ومواكبة الأحداث بعواطف النفس المثارة، وإكراهات الزمان والمكان، عن طريق منطق الجمع غير المنتظم والمقتفي أثر التفاصيل، واضطراب المشاعر والأحاسيس.
مدرسة المدفعية: قميص عثمان العلوي!
يقول راتب شعبو:"الحادثة الرهيبة التي توجت كل هذا، جرت في مدرسة المدفعية في حلب في صيف 1979، راح ضحيتها حوالي 40 قتيلاً من طلاب الضباط إلى جانب مئات المعطوبين النفسيين. في ذلك الوقت كثر الكلام عن جماعة "الإخوان المسلمين" التي لم يكن يعلم الأهالي عنها أكثر من كونها الجهة المسؤولة عن أعمال القتل الطائفية تلك. كان القاسم المشترك لكل هؤلاء الضحايا أنهم ينتمون في الولادة إلى مذهب واحد هو المذهب العلوي الذي ينحدر منه رئيس البلاد حينها".
لا يقول لنا راتب شعبو لماذا يتجمع أتباع المذهب الذي ينتمي إليه رئيس البلاد في أسلحة الجيش المختلفة والمخابرات ويشكلون الغالبية العظمى من المنتسبين والمقبولين... لا يقول لنا إن كان وجود أكثر من 95% من طلاب كلية المدفعية من العلويين (الذين يشكلون أقل من 10% من سكان البلاد) هي صدفة تقنية غير مقصودة، أم هي حرب طائفية على بقية المكونات؟! ثمة محاولة هنا لكتابة ما يعتقد العقل الجمعي لطائفته أنه حدث فعلا وهذه هي أسبابه؛ لقد استطاع راتب شعبو أن" يزوّر "بدلاً من أن أستعمل كلمة يكذب"، هنا يبلغ مرحلة السيرة منتقصةً عملية مدرسة المدفعية، كنت أبحث طوال الرواية عن العمليات التي نفذها رفعت الأسد ضد أكثر من 300 شخصية سنية في كافة مجالات الحياة، ولم أجد حرفاً، أتبعها بعمليات إعدام أكثر من 1000 معتقل بتهمة الانتساب للإخوان المسلمين في سجن تدمر، تبعها عام 1982 اجتياح سرايا الدفاع والوحدات الخاصة لمدينة حماه وارتكاب مجزرة تقول أقل التقديرات أنها قتلت 20 ألفا من أبناء المدينة وهدمت ثلثي أحيائها؛ ثمة في الواقع أفكار كراهية مختبئة في ثنايا اللاوعي للسرد تتدفق باستمرار بين السطور.
سيرة شخصية منحازة!
في البحث بالسيرة الذاتية نجد أن راتب شعبو يقوم بسرد استيعادي نثري يقوم به عن واقعه ووجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية وتاريخ شخصيته المنحازة. وهنا نتساءل عن ثنائية الرعب التي أفضى إليها النص خوف علوي من وجود سني وتكريس مظلومية باطنية يقول راتب شعبو: "تلا ذلك أحداث صدامات طائفية في اللاذقية سقط فيها قتلى، كما قيل. زاد القلق بين الأهالي وزاد الشعور بانعدام الثقة بين الناس على أسس طائفية. اللوم دائماً يتجه إلى الإخوان المسلمين أصحاب الحديث الطائفي والحقد الطائفي والفكر الطائفي ..الخ. " أما ممارسات السلطة الطائفية في الجيش والمخابرات والإعلام والثقافة وواسطات البعثات..و…و… فهي غائبة.
وأتساءل في دراستي لرواية (كأجراس بعيدة) عن النوع الذي ينتمي إليه هذا الإبداع الذي يقوم على تنميط طائفة كاملة بالإرهاب لضرورات إبداعية غير بريئة وتبرئة طائفة ترتكبه بشهادة المجازر والمقابر الجماعية التي لا نجد في سجلاتها سوى سوريين سنة حصرا منذ استيلاء العلويين المطلق على الحكم بعد انقلاب صلاح جديد 1966، يقول راتب شعبو مستعيدا مرحلة الثمانينات في حكم جزار حماه حافظ الأسد: "في تلك الأيام زادت عمليات الاغتيال التي تستهدف أفراداً من الطائفة العلوية، ولا سيما الأطباء والضباط. كان خوف عائلتنا كبيراً على أحد أبنائها لأنه كان من بين أوائل الأطباء في اللاذقية". الإبداع هنا يتخذ من نثر استعادي على عدد صفحات كثيرة، يتخذ من منحى التجربة المزعومة لغة طائفية خاصة؛ وهنا أتساءل عن إبداعية هذه الرواية، هنا كفرق بين الرواية "الفنية" ورواية "السيرة الذاتية" لا يمكن التغافل عن أحقية الكاتب في اتخاذ الشكل المناسب ولكن يبقى هناك حد أدنى من الاشتراطات "الفنية" التي غابت تماماً عن السرد،؛ يبدو للوهلة الأولى الحديث عن انعدام عناصر فنية ترتقي بالعمل لمصافي الرواية، وأن المساءلة لا تتعدى كتابة كتاب عن تاريخ شخصي في سياق عام مجتزأ وشخصي ومنحاز ويقوم بالتدليس والتزوير للتاريخ.
تفكيك
ليس الغرض من كتابة السيرة هو سرد ظروف النشأة، أو الحديث عن الروافد المعرفية أو الإفصاح عن معلومات طي الكتمان فحسب؛ بل يكون النقد ركناً أساسياً لدى من يشرع بنشر سيرته الذاتية؛ وأنا أضيف عليها إشتراطات الشجاعة والضمير، راتب شعبو لا يقوم بتقد الأسس النفسية والاجتماعية التي يقوم عليها النظام ولايقارب البنى الطائفية للنظام ولا مجازره وموقفه من الثورة السورية باهت، ولا يمل طوال السرد من تكرار باطنية عودنا عليها مثقفي الطائفية العلوية، مثيرة للقرف والغثيان والاشمئزاز.
تطور فن السيرة الذاتية وتنوعت أساليب كتابة وتدوين تجارب الذات، وقد تداخل هذا الشكل الفني مع الأجناس الأدبية الأخرى ولعل ذلك التفاعل أكثر وضوحاً في تمظهرات السيرة داخل النص الروائي، وهذا هو ما يفسر إسقاط ما يأتي في السياق الروائي على المؤلف راتب شعبو في كتابه (كأجراس بعيدة) ولو بشكل نسبي.
التعليقات (9)