التعليم السوري في ظل استبداد الأسد: خطة طريق واقتراحات إصلاحية

التعليم السوري في ظل استبداد الأسد: خطة طريق واقتراحات إصلاحية

تميّز النظام التعليمي خلال الحُقب الأسدية بكونه نظاماً يخضع لسيطرة مركزية مباشرة من السلطة وهو نظام مؤدلج يستخدم التربية والتعليم كوسيلة لضبط المجتمع وتعزيز الثقافة القومية العربية الاشتراكية والولاء لشخص الأسد الأب ومن ثم الابن. يتميز النظام التعليمي السوري بكونه يقوم على الكم بدل النوع، حيث الأولوية كانت لمحو الأمية وتم تطبيق مبدأ مجانية ومن ثم إلزام التعليم في المرحلة الابتدائية، وتم تصدير الكثير من الخريجين الجامعيين من أطباء ومهندسين ومعلمين، ولكن كل ذلك على مستوى النوع، لنتساءل مثلاً عن الأبحاث العلمية الرصينة والاكتشافات العلمية وبراءات الاختراع التي قدّمتها وتقدّمها الجامعات السورية! هذا العدد الكبير من الخريجين أصبح مع الزمن فائضاً عن حاجة المجتمع ولا يخدم عملية التنمية ما تسبب في هجرة العقول السورية إلى دول الخليج العربي والعالم الغربي بما سوف يفاقم المشكلة لاحقاً. تتشكل الفعالية التعليمية – كأي فعالية أخرى- عموماً من أبعاد متعددة منها البعد المادي- البعد المالي- التكنولوجي- البعد الإداري السياسي - البعد الاجتماعي.. الخ ولنتوقف بالتفصيل عند بعضها: 

البعد الإداري- السياسي:                                                                             

في النظم الاستبدادية الشمولية، الجميع في خدمة القائد الزعيم، ومشروعية أي نشاط أو مؤسسة تأتي من قدرتها على إبراز عظمة القائد وإنجازات القيادة الحكيمة. التعليم والصحة والنقل البحري وتربية الدواجن وغيرها من القطاعات الخدمية البحتة سوف تتحول الى مُظهِرات لإبراز قيمة الولاء ..أولاً.. ومن ثم أي شيء آخر، وهذا حال النظام التعليمي في سوريا خلال الحقب الأسدية ولا يزال.. من هنا تمت إضافة مقررات التربية القومية الاشتراكية، وتمّت أدلجة التعليم عبر ما يسمى بالمنظمات الشعبية ونقابة المعلمين ومبدأ الحزب القائد وشعارات المُعلم الأول والطالب الأوّل ..الخ، حيث تتحول النقابات من مؤسسات للدفاع عن مصالح المُعلمين المنتسبين إليها إلى (النضال من أجل تحقيق المجتمع العربي الاشتراكي الموحد بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي) كما ورد حرفيّا في النظام الداخلي لنقابة المعلمين. هذا النموذج المؤدلج البائس للتعليم انتقل إلى بعد الثورة إلى المناطق المختلفة الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية أو الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام أو النفوذ التركي في الشمال السوري. رغم أن المناطق المختلفة وضمنا مناطق سيطرة النظام الأسدي لا يمكن وضعها في سلة واحدة من جهة الوضع الأمني وطبيعة السلطة الحاكمة ومدى استقرارها وتوفر الموارد المالية والبشرية، ولكنّها تتشارك في منظومات تعليمية مؤدلجة قليلة الاهتمام بالتعليم نفسه وبناء شخصية الطالب كذات حرّة مستقلة. التعليم في هذا السياق سوف يتحوّل كوسيلة لفرض الهيمنة وأداة للتنميط وتحقيق الولاء على المدى البعيد. في الحقيقة يوجد مشكلة ثقافية عامّة  بغض النظر عن السلطة ومكان التواجد، مشكلة أساسية تبخيس قيمة الحرية مع حضور نسبي ولو نظرياً لقيمة العدالة. الحرية قيمة أساسية في التربية و تنمية التفكير النقدي والعلمي .. حرية السؤال وحرية الخطأ والتجربة ونقد مستويات السلطة ..حرية النقد .. حرية السخرية غير المؤذية.. حرية التعبير) ينبغي ربط منظومة التعليم باحتياجات المجتمع ..و بناء شخصية للأجيال القادمة تقوم على القطع النسبي مع منظومة الاستبداد التي تم تكريسها خلال ما يزيد عن نصف قرن. في مناطق سيطرة النظام الأسدي يرددون في الاجتماع الصباحي ( قائدنا إلى الأبد الرئيس بشار الأسد) وفي مناطق الشمال السوري يرددون في الاجتماع الصباحي استارح: الله أكبر . استاعد : الله أكبر. شعارنا: ( لا إله إلا الله،  محمد رسول الله) بالطبع ليس لدي اعتراض على مقولة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولكن هذه يرددها الإنسان في الحيز الخاص كالبيت أثناء تأدية العبادات أو في المسجد.. ولكن كجزء في المدرسة والجامعة التي هي مؤسسات خدمية من المُفترض أن لا تتدخل أو تتعامل مع الطلاب بناء على أي خلفية عقائدية- دينية. لقد انتقل هذا النموذج إلى مناطق الإدارة الذاتية في شرق الفرات وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، حيث نجد مثلاً صور عبد الله أوجلان تزين الصفوف والمنشورات المدرسية بدل صور حافظ وبشار الأسد). باختصار هي نماذج لا تهتم بالتعليم لكونه حاجة ضرورية لشخصية الإنسان وتنمية المجتمع بل تهتم به كموضوع للتحشيد وتحقيق مشاريع سياسية لا تتوافق مع أولويات الحياة والعدل والحرية.

البعد المادي والبنى التحتية:                                                              

يشمل الأبنية والمرافق والتجهيزات والمختبرات.. الخ. في الحقيقة إنّ نقص عدد المدارس وخروج الكثير منها عن الخدمة بفعل الحرب كل هذا سوف ينعكس سلباً على جودة التعليم. على سبيل المثال قبل الحرب في بلدتي كان متوسط عدد الطلاب بين 35  طالباً في الصف، والمقعد الواحد مثلاً يتقاسمه أربعة طلاب في المرحلة الابتدائية.. والآن في مناطق سيطرة النظام والشمال السوري أصبح العدد بين 40 إلى 50 طالباً. وهنا يلعب البعد السكاني عاملاً إضافياً، فمع استمرار التزايد السكاني بوتيرة عالية هذا سوف يفاقم المشكلة ففي 2009 مثلا كان معدل نمو السكان 2.45% وهي من أعلى النسب حول العالم. إنّ نقص توافر المرافق الصحية بشروط صحية في غالب المدارس مثلا سوف يكون له انعكاسات مباشرة صحية وغير مباشرة تربوية، مثلا في المدرسة الثانوية التي درستُ فيها كان يوجد حمام واحد نظيف بُقفلْ ومُخصص حصراً للمعلمين، والطلاب عملياً كانوا بدون حمامات أو بمرافق صحية بائسة تفتقد لأساسات النظافة، بالمقابل المناهج التعليمية التي درسناها كانت تؤكد على النظافة في مادة العلوم والسلوك والتربية الدينية وضمنا حديث ( النظافة من الايمان)..الخ. إنّ الطالب الذي يدرُس ويُذاكر عن النظافة سوف يعيش في ازدواجية معايير بين النظرية والتطبيق، وكلما كانت هذه الفجوة أكبر كلما زاد الشرخ في بناء شخصية الطالب والإنسان السوري عموماً. مادة العلوم الطبيعية والكيمياء وغيرها سوف تتحوّل إلى مواد نظرية بحتة بفعل غياب المخابر والوسائل المساعدة، والأدهى من ذلك أنه في بعض المدارس تحوّلت مادة الحاسوب إلى مادة نظرية، حيث إنه لا يوجد كمبيوترات تعمل ضمن الخدمة. التعليم في جزء كبير منه تجربة ملموسة وخبرة مُعاشة، إنّ إمكانية إجراء التجارب في الواقع تفتح آفاقاً للتعليم وتربطه من فعالية نظرية ذهنية بحتة إلى نشاط حياتي متكامل يقلّد ما نَحتاجُه في الحياة ويجري في الواقع.                                               

في التعليم السوري تم تضخيم الجانب النظري وتقليص الجانب العملي التجريبي وينطبق هذا أيضاً على الدراسة الجامعية، فمثلا عند دراستي في كلية الطب سنة أولى وثانية كان عدد أفراد الفئة حوالي خمسين طالباً، كلهم يجتمعون حول جثة واحدة في درس التشريح وعلى حلقات، وعملياً نصف الطلاب خاصة الشباب الذكور لا يشاهدون الجثة موضوع الدرس، وكنا نستعيض عن ذلك بالأطالس المصورة وتنمية مَلكة التخيل والحفظ النظري. كلية الطب- جامعة حلب قدرتها الاستيعابية بحدود 200 طالب في السنة سوف يتم قبول 500 أو 600 طالب! التزاماً بسياسة الاستيعاب الجامعي ورغبة الأهل ولأسباب موضوعية أخرى.

البعد المالي:                                                                                       

يشمل تكلفة التعليم والموارد المُخصصة. وفقا لإحصاءات البنك الدولي كان الإنفاق الحكومي على التعليم في سوريا 5.1% من إجمالي الناتج المحلي عام 2009 وهي نسبة مرتفعة عالمياً نوعاً ما، للمقارنة مثلا هي تساوي ما تخصصه دولة متقدمة كأستراليا 5.1% أي نفس النسبة، أمّا الأردن 3% و الإمارات 3.1 % وإيطاليا 4.3% وهي أقل من إسرائيل 6.2%. لاحقًا ومع الحرب تدهور حجم الإنفاق على التعليم، فوفقاً لوكالة سانا تم اعتماد الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2020 بمبلغ إجمالي قدره 4,000 مليار ليرة سورية" بتخصيص32.59 مليار ليرة لوزارة التربية وهي نسبة أقل من 1%  وهي  بحدود 8 بالألف. ولأخذ فكرة أوضح يمكن مقارنة ميزانية التعليم بميزانية الدفاع والأمن مثلا!                            إنّ الأرقام المجردة لا تعكس الصورة الحقيقة للإنفاق الحكومي على التعليم فالفساد المستشري في مؤسسات الدولة قادر على تقليص حجم الإنفاق الفعلي المُفيد للنصف أو للربع مثلا! فمشكلة التعليم والصحة في سوريا هي مشكلة نظام إداري- سياسي استبدادي فاسد يفتقد للشفافية والعدالة. مثلا ماذا سوف يستفيد مجال التعليم وماذا سوف يستفيد الطالب السوري من المهرجانات الخطابية ونفقات الاحتفالات في ( المناسبات الوطنية ) ومعسكرات الطلائع والبعث والتدريب الجامعي مثلا! ومع مجيء الأسد الابن تحول التعليم من القطاع الحكومي العام المتاح لشرائح واسعة من السوريين إلى مجال للاستثمار الاقتصادي والربح عبر إنشاء الكثير من المدارس والجامعات الخاصة برؤوس أموال ضباط ومسؤولين سوريين فاسدين.

سأقدّم عدداً من النقاط التي أراها مفيدة في استشراف مستقبل التعليم في سوريا: 

أولا- إصلاح النظام التعليمي يقتضي ضمناً إصلاحاً سياسياً- إدارياً.. ومن الصعوبة بمكان فصل التعليم عن هذا السياق العام. مثلا مع وجود سلطة استبدادية مطلقة أو ميليشيات قومية أو دينية مؤدلجة سوف يتم تغليب الولاء على الكفاءة ما يتسبب في تفشيل التعليم وكل شيء... ولكن في ظل انغلاق الحل السياسي ..من المفيد تثمين أي جهد إيجابي واغتنام الفرصة المواتية عندما يحدث اختراق سياسي ما.

ثانيا- إصلاح النظام التعليمي يقتضي ضمنا إصلاحاً ثقافياً اجتماعياً دينياً ..و ذلك لتقليل الفجوة بين المجتمع والمدرسة ..وبحيث يعيش الطالب في بيئة صحيّة. على سبيل المثال كان العنف سلوك شائعاً ومتفشياً في المجتمع السوري وعلى مدى عقود بما يشمل السلطة السياسية والأسرة والمدرسة جميعاً. في بدايات الألفية الثالثة تم إقرار قانون من وزارة التربية يمنع الضرب من قبل المعلمين، وتم تنفيذه على نطاق مقبول، في الحقيقة هو قانون إيجابي في وقته ومكسب بالتأكيد، ولكن ماذا عن العنف الأسري وغياب هيئات حماية الطفل، وماذا عن التعذيب الوحشي من قبل المخابرات وكلاب السلطان مثلا؟!                                                     

ثالثا- أقترحُ الاهتمام والتأكيد على العلوم الإنسانية بما يشمل المنطق والفلسفة السياسية وثقافة الحقوق المدنية وحقوق الإنسان والتنمية البشرية. وكذلك الابتعاد عن التنميط الهوياتي المؤدلج في تدريس التاريخ والجغرافيا السياسية والدين. في الحقيقة إنّ الاهتمام بالعلوم الإنسانية - ضمن هذا الاعتبار - ضروري لبناء شخصية مواطن سوري متوازن وضروري لبناء هوية وطنية منفتحة غير متعصبة. وهنا يمكن اقتراح مادة العقائد والأخلاق كمقرر يدرس الأديان والعقائد الشائعة للشعب عبر منظور إيجابي قليل التحيز، وكذلك يمكن اقتراح نظام تعليم مُختلط كما هو شائع في كثير من الدول - ومنه في كندا حيث أقيم - حيث يوجد مجلس للتعليم الرسمي الحكومي لا يُدّرس أي مُقرر ديني، ومجلس للتعليم الكاثوليكي يدرّس مادة الدين ضمن معايير الحقوق المدنية ، ومنه يمكن في سوريا المستقبل إنشاء مجلس للتعليم الإسلامي يتفرع عنه مدارس تكون خاضعة لإشراف وزارة التربية ويكون الانتساب إليها هو خيار الأسرة والطفل في المراحل العمرية الأكبر.

رابعا - ربط التعليم باحتياجات سوق العمل والتنمية وزيادة فرص التعليم المهني: ففي بلادنا يوجد عدم توازن بين التعليم الأكاديمي والمهني ..ففي كندا مثلا - غالب الطلاب عقب انتهاء المرحلة الثانوية يلتحقون بمعاهد (كولج) لمدة 6 أشهر لسنتين كحد أقصى، ثم يدخلون في سوق العمل بسرعة ، فقط الطلاب المتميزون يختارون متابعة التعليم الأكاديمي والعالي، وبعكس بلادنا حيث يكون الحصول على الشهادة واللقب قيمة بحد ذاته. سوريا الآن وفي المستقبل القريب والمتوسط  من المُتوقع أن تدخل في مرحلة إعادة الإعمار وهذا سوف يتطلب الكثير من العمالة المتوسطة المهارة، وليس العدد الكبير من الأكاديميين مثلا.

خامسا وأخيراً - تعزيز ثقافة العمل التطوعي في خدمة المجتمع وجعلها من معايير الإنجاز الدراسي، مثلا يحتاج الطالب في معظم البلاد المتقدمة الى عدد مُحدد من ساعات التطوع لاجتياز المرحلة الثانوية، وكذلك يحتاج لعدد محدد من ساعات العمل التطوعي المُتخصص في مجال معين لقبول متابعة الدراسة فيه ، مثلا من يريد التخصص في مجال العلوم الصحية عليه إنجاز ساعات تطوع في نفس المجال، وكذلك في المجالات الأخرى. العمل التطوعي يجب أن يتحوّل إلى تقليد تربوي وهو مفيد لتعزيز شخصية الطالب وإدماجه في خدمة المجتمع وعجلة التنمية باكراً وبطريقة سلسة. 

 

التعليقات (1)

    أنس خطيب

    ·منذ سنة 7 أشهر
    بالطبع هذه الأنظمة المستبدة ما خلقت لتبني وتنهض بمجتمعاتها بل لتدمر البشر والحجر وتحرق الشجر وما ذكرته من توصيات ومقترحات للإرتقاء بالعملية التعليمية ومنها بالطالب الهدف جديرة بالإهتمام والدرس مع جزيل الشكر لكم صديقي أبا حاتم العزيز
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات