أرواد ذاكرة المكان والإنسان-3: محنة الصياد مع الطبيعة والموافقات الأمنية وأغلى أنواع السمك وأرخصها!

أرواد ذاكرة المكان والإنسان-3: محنة الصياد مع الطبيعة والموافقات الأمنية وأغلى أنواع السمك وأرخصها!

حين أقول إنني ابن جزيرة أرواد، أول ما يخطر في بال الناس هو السمك ومهنة الصيد، حتى إن الكثير ممن التقيتهم أثناء دراستي في دمشق، يعتقد أننا في أرواد جميعنا نعمل بالصيد وأننا نأكل السمك يومياً! هي "كليشيه" أعتقد أنها تلتصق بسكان جميع الجزر بالعالم. على كل هذه هي نصف الحقيقة إذا أردنا أن نكون صادقين!

 فالأرواديون أولاً وقبل كل شيء هم تجار بحريون، تعمل غالبيتهم العظمى في نقل البضائع عبر الدول بالسفن الضخمة، بكل ما لهذه المهنة من وظائف. تجار بمكاتب، إداريون، بحّارة، هندسة ميكانيك، سماسرة، وغيرها الكثير من المهن المرتبطة بالتجارة البحرية، لكن هم أيضاً صيادون. ومهنة الصيد كانت الغالبة على نشاطهم حتى أوائل التسعينات من القرن الماضي. وهي التي تحتل   المكانة الأكبر في ذاكرتي، فتعالوا معي في رحلتنا البحرية هذه، لأصحبكم من بداية تحرك المركب من مرساه في أرواد، حتى لحظة وصول السمك إليك أيها المشتري، وهنا سنتحدث أيضاً عن أنواع السمك، الرخيص والغالي. سأخبرك بأسماء الجيد والرديء وعليك أنت أن تبحث عن صورها، كي تعرف ألوانها وأشكالها، وكي تستطيع التمييز بينها.

الوصول إلى (الحرف) وتقنيات الصيد الثلاث!

مع الساعات الأخيرة للعصر وبداية المغرب، يجهّز الصيادون أنفسهم. يلتقون في مراكبهم، ويتحركون كي يصلوا عند حلول الليل إلى منطقة (الحرف)، وهي منطقة بحرية تتميز بتغيّر مفاجئ لعمق المياه فيها، أي يكون بعمق 20 متراً مثلاً، ليصبح 200 متر. هذه المنطقة هي الأكثر وجوداً للأسماك فيها، وهي هدف الصيادين! 

كيف يعرفها الصياد؟ في البحر لا يوجد علامات ولا طرق، وإنما عليه أن يحددها من خبرته، ومن تقاطع مناطق في البر، وليكن مثلاً الخط الواصل بين مئذنة أو عمارة مرتفعة في طرطوس، مع نقطة أخرى في أرواد، وهنا يتمايز الصيادون بقدرتهم على معرفة مكان الحرف، فهل تتخيلون مدى صعوبة الوصول إلى مكان دون أي نقطة علّام واضحة، سوى الخبرة وحدس الصياد؟

وحين الوصول يوجد هنا ثلاث تقنيات للصيد: 

1-  الطريقة الأولى ونسمّيها في أرواد (اللوكس) وهي أبسط الطرق، تعتمد فقط على وضع جهاز إنارة في أعلى المياه بمتر مثلاً، فتنجذب الأسماك تلقائياً إلى النور، فيصطادها الصياد بصنانير فيها طُعم بسيط، أو أحياناً بلا طُعم حتى. هي طريقة سهلة وبسيطة، وبلا تكلفة عالية، لكن مشكلتها أن ما ينجذب للضوء هي الأسماك السابحة على سطح الماء، وهي عادة أسماك صغيرة أقل جودة، رخيصة جداً، قيمتها الغذائية ضعيفة، لكن بكميات كبيرة أو لنقل إنها سمك الفقراء، أهم أنواعها السكمبري والعصيفير. 

2- الطريقة الثانية واسمها المحلي (الشرك) وهي خيوط طويلة، يصل طولها أحيانا إلى 150 -180 متراً، في كل خيط يرتبط العديد من خيوط النايلون والصنانير، التي يوضع عليها طعم للسمك، هو غالباً سمك صغير أو قطع دجاج، أو أي شيء فيه دهون وممكن أن تجذب رائحته الأسماك. هنا حين يصل المركب إلى الحرف، يمدّون هذه الأشراك وغالباً ما يكون لديهم عدد من هذه الخيوط، يستغرق مدُّها عدة ساعات، وحين ينتهي الصياد من مدّ آخر خيط يبدأ بسحب الخيط الأول، ليجد بعض الصنانير فارغة، بعضها عليه سمك متوسط، وأحياناً بعض السمك غالي الثمن، وهنا يفرح الصياد أو يحزن حسب عدد ونوع السمك العالق في أشراكه. أفضل الأنواع التي تُصطاد بهذه الطريقة هي "الفرّيدة"، وهي سمكة ذات لون أحمر جميل، وطعمها لذيذ جداً، وأيضاً سمك الرملة، وهي ذات لون بنّي أيضاً، جميلة جداً وشهية، وتُعد مع الفريدي من أغلى أنواع السمك. ممكن أن يصل سعرها إلى 100 دولار، لكنها نادرة نوعاً ما. ألم تسمعوا بالسمكة البنّية؟

صيد العصاري يا سمك يا بني

تلعب بالمية لعبك يعجبني

اه يا سمك بنّي

صيادك ماهر بياعك شاطر

ووجودك نادر ما أحلاك يا بنّي

ياللي بتصايح في البحر المالح

يا بو المنايح حبك شاغلني

اه يا سمك بنّي

هل تتخيلون إذن جمال هذه السمكة، ولماذا دخلت إلى القدود الحلبية، وهي ليست سمكة نهرية، فهي بتصايح بالبحر المالح ...... فعلا آه منها يا سمك يا بنّي.

٣- الطريقة الثالثة والأخيرة هي طريقة (الشِّباك): وأعتقد أنها الطريقة الأشهر. ربما هي الوحيدة المعروفة لغير العاملين بالمهنة، وهي الشِّباك المعروفة التي يوضع بها أيضاً صنانير وطُعم، يمدُّها الصياد عند منطقة الحرف، لكنها تستلزم وقتاً أكثر. هنا يطفئ الصياد ماكينة المركب، وينتظر عدة ساعات وربما ينام قليلاً حتى يترك المجال للشباك كي تلتقط أكبر عدد ممكن من الأسماك، ثم يسحب الشبكة وعادة تكون مُحمَّلة بالأسماك حسب رزق الصياد وما قسمه الله له. وأشهر أنواع السمك الذي يُصطاد بهذه الطريقة هي "السلطان إبراهيم"، وهي سمكة حمراء، جميلة وغالية الثمن. وبعدها يأتي نوع الغزال والجرو، وهو سمك جيد لكن أقل جودة من البقية.

كيف يختار الصياد طريقة صيده؟ وكيف تصل السمكة إليك؟

الموضوع يعتمد على عدة عوامل منها الخبرة. ومنها أيضاً كيف تَدرَّب الصياد في بداية حياته، ومنها مدى توفر المال. فصيد اللوكس لا يحتاج إلى عُدّة سوى جهاز الإضاءة هذا، وأيضاً يعتمد على توفر عُدة الشبك والشرَك، أو أحياناً بكل بساطة على التيسير وحدس الصياد. 

ومع انتهاء عملية الصيد، وهي الجانب التقني، تبدأ هنا المرحلة التجارية. فحين يعود الصياد الأروادي، يكون لديه خياران: إما بيع السمك مباشرة إلى المسمكة، ونسمّيها في أرواد ساحة السمك  (وعلى ما أذكر، يوجد في أرواد ثلاث ساحات سمك) أو يذهب بها إلى طرطوس للبيع في المزاد العلني! 

مزاد علني؟ نعم، هناك في طرطوس مكانان لبيع الأسماك صباحاً في مزاد علني، يأتي الصياد إلى أحد هذين المكانين، يزن سمكه ويكتب نوعه ووزنه على ورقة كرتون، ثم يأتي أصحاب المسمكات والتجار والباعة المتجولون، فتُعرض بضاعة كل صياد مع الكرتونة المحدَّد عليها الوزن والنوع، وصاحب السعر الأعلى هو من يأخذ البضاعة، ليبيعها بدوره إلى المستهلك النهائي. 

وماذا يربح أصحاب المزاد؟

غالبا يأخذون نسبة معينة من قيمة البضاعة (أعتقد أنها 5%) و هم بنفس الوقت تجار سمك، فغالباً يأخذون أثناء الوزن سمكة أو اثنتين من الصياد، هو عُرف أو تقليد. تعتمد نوعية وعدد الأسماك التي يأخذونها على قوة الصياد، تتراوح بين سمكة صغيرة رخيصة للصيادين الأقوياء، وربما أغلى الأنواع للصيادين الضعفاء، أعتقد أنه القانون الذي يسري على العالم كله، الضعيف هو أكثر من يدفع. لا علينا لا أريد أن أبتعد عن الموضوع، ولنعُد إلى رحلتنا مع عالم الصيد والسمك.

الحالة الاقتصادية للصياد 

لا أعتقد أنني سأكون مبالغاً إذا قلت إن الصيادين هم الطبقة الأكثر معاناة بين البشر؛ فمهنتهم  صعبة تستلزم قوة عضلية كبيرة، وطاقة تحمّل هائلة، وصبر على الانتظار وتعلّق بالمجهول........!

فالصياد يبدأ يوم عمله (أو ليله إن أردنا الدقة) ولا يعلم أبداً إن كان سيعود بصيد وافر وثمين، أو ربما لا شيء. لذلك ترى الصيادين من أكثر الناس تطيُّراً (أي تشاؤماً وترقباً)، ممكن أن يربط أي حادثة أو جملة أو حتى كلمة، بحسن أو سوء طالع. هي حالة نفسية وعقلية سببها فقدان السيطرة على الواقع، وعدم القدرة على التحكم به، هي حالة بشرية طبيعية، ألا ترون كيف تؤمن الشعوب الضعيفة بكل أنواع السحر وبقدرة الكلمات والتعاويذ على تغيير القدر، وهو ما لا تؤمن به الشعوب القوية الممسكة بمصيرها.

هكذا حال الصياد، هو الأضعف بين البشر. فحين تجنّ الطبيعة ويبقى البحر هائجاً، ربما يبقى الصياد عدة أيام دون عمل، و حتى في أيام العمل لا يعلم رزقه إلا الله، لذلك فالسمكة عزيزة جداً على الصياد، لا أعتقد أننا يمكن أن نفهم العلاقة التي تربطه بها، فهي مصدر فرحه وسعادته، وهي رزقه ورزق عياله، ينظر لها مليّاً و بكل فرح حتى لحظة بيعها، متخيّلاً كم ستكون هذه السمكة سبباً لفرح أولاده.

مهنة الصيد، من أكثر المهن غرابة، فهي تطلب من الصياد توفير المال بشكل دائم. فالمركب يحتاج إلى صيانة مرتين تقريباً سنوياً، أي إخراجه إلى البر (تحصيل اللنش) كما نقول في أرواد، وهي عملية مُكلِفة اقتصادياً (أذكر أنه في أرواد كان هناك ثلاث ورشات لهذه الصيانة) أيضاً ديزل لهذا المركب، دفع إيجار من يجهّزون ويصلحون الشباك والأشراك، أي صيانة عُدّة الصيد، وهي مصاريف إجبارية، تُدفع دورياً وبشكل مستمر، في المقابل فهي مهنة لا تَعِد الصياد بأي شيء، لا دخل ثابتاً ولا حماية له في حال المرض أو العجز. 

فهل هناك أكثر قساوة من هذه المهنة؟

عذاب اسمه: الموافقات الأمنية 

وما زاد الطين بلّة، هو الصعوبات الإدارية والأمنية للصيد منذ بدايات اندلاع الثورة السورية، فقد أصبح المركب بحاجة لعدة موافقات أمنية كي يستطيع التحرك والوصول إلى منطقة الحرف هذه، ما جعل أعداد الصيادين تقلّ شيئاً فشيئاً، ويقلّ عدد الطلعات، ليقلّ – بالتالي- المدخول أكثر فأكثر حتى يصبح شبه معدوم، ويتوجّه الصيادون للبحث عن مهن أخرى، بالرغم من صعوبة تغيير المهنة لشخص لا يملك خبرة في مجال آخر!

ربما لحسن حظ الأرواديين، أن عدد الصيادين بها لا يتعدى 50% من الأرواديين الذين يعيشون في الجزيرة (أرواديّو الداخل)، وربما تكون شبه معدومة في الأرواديين الذين يسكنون في الأحياء الأروادية في طرطوس أو اللاذقية (أرواديّو الشتات)، رغم أهمية هذه المهنة لكنها تحتاج إلى تنظيم، وآلية عمل تحمي الصياد وتؤمّن له الحدّ الأدنى من حقوقه، ولا أعتقد أن حالة البلاد الراهنة يمكن أن تحسّن من حال أي إنسان بها، وبالتأكيد لن تُحسّن من حال الصياد.. فكيف إذا كان أروادياً!

الحلقة الرابعة السبت القادم

التعليقات (3)

    السيف الدمشقي

    ·منذ سنة 8 أشهر
    سلسلة رائعة ومدهشة حقا... كأننا نكتشف جزءا من وطننا سورية لأول مرة بهذا التفصيل.. وكأننا لا نعرف شيئا عن أرواد مع أنني زرتها أكثر من مرة قبل الثورة. شكرا يا اورينت وشكرا للكاتب السيد عسيلي على الجهد المخلص الذي يبذله كي يعرفنا بمجتمع هذه الجزيرة الأثرية الجميلة وطرائق حياته قبل كل شيء.

    حمصي مهاجر

    ·منذ سنة 8 أشهر
    أحسنت الوصف و السرد بأسلوب جميل و شيّق . تمنيت لو أستطيع زيارة هذه الجزيرة مجدداً لكي اشاهدها من كل الجوانب .. اسواق . مطاعم . مساجد و المتحف .. و هنا يخطر لي سؤال ؟؟ إذا أردت أن أجرب حياة الجزيرة ليومين او ثلاثة هل يوجد فنادق ؟ تحياتي و بانتظار الحلقة الرابعة

    منصور

    ·منذ سنة 7 أشهر
    اخي انا بعتقد المثالية لي عم توصف فيها ارواد واهلها بصدقوك كل العالم الا اهل ارواد نفسهم. لانك عم تبالغ كتير بالمثالية. في امور كتير اذا ذكرتها راحت كل هالمثالية وبقي المثلية لا تنسى تجارة الحشيش والمخدرات والسلاح و الشذوذ الجنسي من الطرفين حاج بقى مثالية لف الموضوع.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات