أنقرة وتزايد بواباتها المغلقة في الشمال السوري

أنقرة وتزايد بواباتها المغلقة في الشمال السوري

أكثر من ثمانين يوماً مضت على إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن عملية عسكرية في شمال سوريا، وبرغم الفيتو المزدوج الروسي الأمريكي والرفض الإيراني لأي عمل عسكري تركي في شمال سوريا يهدد الاستقرار الهش أصلاً وفق مبرراتهم، لم تتوقف الإمدادات والأرتال العسكرية التركية للداخل السوري بل تزايدت، وازادت معها حجوم الحشود المرابطة على الحدود التركية_ السورية من الجانب التركي، وكان آخرها عندما دفعت أنقرة بتعزيزات عسكرية جديدة لخطوط التماس مع قوات سوريا الديموقراطية "قسد" وميليشيات النظام، بعد أن اصبح كلاهما بخندق واحد بعيداً عن كل (جعجعات) إعلام "قسد" الذي كان يحدثنا فيما سبق عن معاداته لنظام أسد الديكتاتوري.

التعزيزات العسكرية التركية الأخيرة إضافة لمواقع بالشمال السوري، شملت أيضاً مواقع وجود النقاط التركية في جبل الزاوية، والنقاط الثلاث التي أنشأتها تركيا مؤخراً في جبل الأربعين (تلة سان) وحرش قرية (مصيبين) بريف إدلب الجنوبي، إضافة لتوسعة نقاط تركية أخرى بشكل يخالف كل التفاهمات التي تطالب بها قاعدة "حميميم"، والتي تؤكد على ضرورة نقل كافة النقاط التركية إلى شمالي الخط إم4، لتأمين وصول ميليشيات أسد لجبل الزاوية واوستراد اللاذقية حلب (إم فور) كما نصت توافقات روسية مسبقة مع أنقرة في لقاء سوتشي 2020.

لكن بالتأكيد هناك مستجدات طرأت بعد قمة طهران التي جمعت زعماء روسيا وتركيا وإيران، والتي فشل فيها الأتراك بالحصول على أي بصيص لضوء أخضر لعملهم العسكري. وحتى قمة (سوتشي) التي تلت قمة طهران بين الزعيمين التركي والروسي والتي شكلت آخر سهام الدبلوماسية التركية، اصطدمت سهامها برفض روسي قاطع وانسداد الأفق الجغرافي من منبج شرقاً حتى الحدود العراقية أمريكياً. حصر التفاهمات الروسية التركية بمربع "منغ، تل رفعت" وقيل بعدها إن روسيا قد توافق على عملية عسكرية تركية مشروطة ومحدودة وبمقابل. وقد يكون المقابل مكلفاً لأنقرة ومحرجاً لحلفائها من الفصائل بالداخل، متمثلاً بصفقة تحصل بموجبها أنقرة على بلدة "تل رفعت" فقط مقابل سلخ "جبل الزاوية" من أيدي فصائل المعارضة وإعادته لنظام أسد وتأمين وصول جيشه للخط إم فور، أو عبر وقف تزويد أنقرة لأوكرانيا بمسيرات "بيرقدار" التي أنهكت الجيش الروسي على جبهات الدونباس وخاركيف، وقد يكون هذا الخيار هو الأكثر رجحاناً في قادم الأيام.

على الضفة الأخرى من نهر الفرات حيث يتربع الوجود الأمريكي, يبدو جلياً أنه يمسك بكل خيوط اللعبة, وأن أي توافق بين موسكو وأنقرة لا بد أن يخضع لرقابة الأمريكان, ليس في شرق الفرات فحسب بل حتى بغربه باستثناء مربع (منغ, تل رفعت), الذي تخلّت عنه واشنطن عقب وصول الجيش التركي والجيش الوطني لمدينة عفرين, لكن تخلّي الأمريكان عن بعض مناطق غرب الفرات لا يعني ابتعادهم عن هدفهم الجديد المتمثّل بتقليل النفوذ السياسي والعسكري للروس في الجغرافيا السورية, برز ذلك واضحاً بطلب التحالف الدولي من "قسد" تحجيم الدور الروسي ومنعهم من التحرك منفردين بدورياتهم ودون مرافقة.

التناغم الروسي التركي عقب اجتماع سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين, وتصريحات وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو التي اعتبرها البعض خطوات تمهيدية لقفزة تركية أكبر قد تصل لبوابات دمشق, مصطحباً معه معارضة تركيا, عبر مصالحة اعتبرتها أنقرة وسيلة وحيدة لتحقيق السلام السوري, بعيداً عن أي تطرق للقرارات الدولية (2254 ومبادئ جنيف1), بتبنٍّ واضح لمخرجات مسار أستانا وفقاً للرؤية الروسية والإيرانية, تلك التصريحات اصطدمت بهبّة شعبية ومظاهرات عمت كل (المناطق المحررة) تعبيراً عن رفض قاطع, ومؤكدة أيضاً, أن الشعب السوري النازح والمشرد في الشمال يرتضي العيش بخيام ممزقة مع لقمة مغمسة بالقهر والدم على العودة لمنظومة ديكتاتورية أسدية أجرمت بشراكة مع حلفائها الروس والإيرانيين وكل مرتزقتهم بدماء السوريين على مدار أحد عشر عاماً, وهذا ما سيدفع أنقرة لإعادة حساباتها مرة أخرى بوعود قد تكون قطعتها لموسكو.

أيضاً, الضغط التركي على "قسد" شمال شرق سوريا وبرغم الوضع المحرج عسكرياً لقوات قسد, قد انعكس بما لا يرضي أنقرة, فالضربات النوعية للطائرات المسيرة التركية التي مررتها واشنطن لأنقرة على مدار الأشهر الفائتة أقلقت "قسد" ومن خلفها حزب العمال الكوردستاني, بعد أن طالت تلك الضربات مفاصل مهمة من منظومات قيادتها, فدفعت "قسد" لإصدار قرار بتعليق عملياتها المشتركة مع "التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" احتجاجاً على قصف الطائرات المسيرة التركية "بيرقدار" لهياكلها القيادية, أعقب ذلك اجتماع موسّع لقيادات من التحالف الدولي مع قياديين من قوات سوريا الديمقراطية تم في مدينة الحسكة, لمناقشة "النشاط العسكري شمال شرق سوريا", تحدث فيه قائد قوة المهام المشتركة في عملية "العزم الصلب" الجنرال "جون برينان" عن محاولات وصفها بـ "التعطيلية" لعمل قوات مكافحة تنظيم "داعش" شمال شرق سوريا, معتبراً أن التعطيل يتمّ من قبل من وصفهم بـ"أطراف خارجية"، رغم أن التنظيم "لا يزال يهدّد الشعب السوري والمنطقة", مشدّداً على أن التحالف و"شركاءه من قوات سوريا الديمقراطية" ما زالوا ثابتين على هدفهم المشترك، المتمثّل في ضمان الهزيمة الدائمة لـ"داعش", والمعلومات الخاصة تؤكد أن التحالف الدولي استمع لاعتراضات قيادات "قسد" على ضربات مسيرات "بيرقدار" ووعد بحلها مع الجانب التركي, سبق ذلك قيام التحالف الدولي وفقاً لمصادر خاصة بتزويد قوات "قسد" بـ (300) صاروخ مضاد للدروع من نوع "جافلين" لتضاف لمخزونهم من صواريخ "تاو" و "كورنيت" الموجودة على خطوط التماس مع الجيش الوطني والجيش التركي شمال سوريا.

تلك التطورات بالتأكيد ستُغضب أنقرة, إن كان بطلب أمريكي (متوقع) لوقف ضرباتها الجوية بالمسيرات التي ارتضتها أنقرة يوماً كبديل عن عمليات اجتياح عسكرية لمناطق سيطرة "قسد" والبي كي كي, وغضب آخر لأنقرة إن تأكدت معلومة وصول صواريخ "جافلين" لمنصات "قسد" الحدودية, وبالتالي ستعود الأجواء المشحونة لتغلق بوابات التفاهم بين أنقرة وواشنطن المتعثرة أصلاً منذ صفقة صواريخ الإس_400 التي استوردتها من موسكو, وأعقبتها سلسلة إجراءات أمريكية تمثلت بوقف التعاون الأمريكي التركي بمشروع طائرات إف_35 ومنع تصديرها لتركيا, وعقوبات اقتصادية طالت بعض المؤسسات والأفراد الأتراك, إضافة لخلاف سابق ومتجدد يتمثل بقضية فتح الله غولن الذي تعتبره أنقرة المحرك الرئيسي لانقلاب تموز 2016 في تركيا والذي تتحفظ واشنطن على تسليمه لتركيا.

إغلاق بوابات التلاقي الأمريكي التركي في الملف السوري هو الأكثر رجحاناً بعد الرفض الأمريكي للعملية التركية, وبعد زيادة واشنطن لشحناتها من الأسلحة النوعية لقوات "قسد" التي تعتبرها أنقرة بمثابة تقوية ودعم لحزب العمال الكوردستاني, باعتبار أن كل ما يحصل في شرق الفرات يخضع لإرادة البي كي كي وقيادتها في جبال قنديل, وأن "قسد" عبارة عن واجهة خلبية لا تمثل الحقيقة وفق منظور أنقرة, أيضاً بوابات موسكو مع أنقرة لن تكون سالكة بسهولة بما يخص الوضع بالشمال السوري خاصة بعد الموقف الشعبي الذي عبرت عنه مظاهرات سكان المخيمات, والتي أعطت صورة واضحة أن قرار الثورة ما زال ممسوكاً من الحاضنة الشعبية, وأنها لم ولن تتخلى عنه, وأن أنقرة باتت على معرفة وإدراك تام أن من يقدمون أنفسهم كقيادة سياسية وعسكرية للثورة, لا يمثلون بحقيقة الموقف إلا أنفسهم, ومؤشر آخر على أنقرة أن تدقّق به جيداً, بأن كل تلك القيادات التي تدق على صدرها مانحة وعوداً ماسيّة, هي ضعيفة ومترهلة وغير قادرة على الوفاء بما تعهدت به.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات