رواية (ضمانات للمستقبل) لممدوح حمادة: الانزواء بعيداً عن الشقاء السوري!

رواية (ضمانات للمستقبل) لممدوح حمادة: الانزواء بعيداً عن الشقاء السوري!

بعد روايته "المحطة الأخيرة" الصادرة عام 1999، ورواية  "جلنار" الصادرة عام 2001، ينشر الكاتب السوري ممدوح حمادة روايته الثالثة تحت اسم "ضمانات للمستقبل" وهي من الإصدارات الحديثة لدار ممدوح عدوان للطباعة والنشر، وفيها يقدّم حمادة نموذجاً باهراً للرواية المصابة بالاغتراب واعتلالاته الملوّنة، وبالانزواء بعيداً عن شقاء الواقع السوري منذ أحد عشر عاماً، ربما لأن الكاتب يعيش في بيلاروسيا منذ العام 1984، حيث درس الإعلام هناك، ثم تعاقد مع إحدى الجامعات البيلاروسية ليعمل كمحاضرٍ فيها، بالرغم من أنه قدّم سيناريوهات تلفزيونيّة لمسلسلاتٍ عدّة حملت نقداً دراميّاً ذكيّاً يعود نسبُه إلى الواقع السوري بالفعل، مثل"ضيعة ضايعة" و"الخربة" و"ضبوا الشناتي".

المنشأ مدينة نيويورك!

يمكن الاستدلال على الاغتراب في رواية "ضمانات للمستقبل" بأن حبكتها البسيطة ذات الطابع الخطّي الزمني الكلاسيكي المتدرّج سرداً من نشوء العقدة إلى حلّها تدورُ في مدينة نيويورك عام 2017، وشخصياتها هم من المواطنين الأمريكيين، أي ليسوا من السوريين المجنّسين هناك، ولا حتى من عربٍ يحملون الجنسية الأمريكية، فيختار الكاتب شخصية "رودي" ليكون بطل سرده الوحيد، والذي يتحوّل أحدُ أحلامه إلى كابوسٍ يقلب حياته رأساً على عقب، بعدما رأى في حلمه ذاك جارته "هيلينا" وهي تغنّي له أغنياتٍ للأطفال كتلك التي تسبق نومهم، وتمسح على رأسه كما لو كان ابنها الصغير، أدخلته "هيلينا" في الحلم إلى بيتها وأرضعته. لكن في الواقع أخذت المصادفات التي تجمعه بـ "هيلينا" تتكرر على نحو لفتَ انتباهه، أو أخافه من فحولةِ الصدفة، وقدرتها على النفاذ إلى أعماقه، والإجهاز على أمانه الداخلي كلّياً.

ولأن الضرورة هي التي تستقدم الشخصيات إلى حبكة حمادة لا المخيلة، فإننا نجده وقد صنع لنا شخصية "سيليا" فقط ليبوح لها "بودي" بمكنون كابوسه، ويخبرها بتعدد تلك المصادفات التي أخذت تجمعه بـ"هيلينا" بطلة كابوسه، ثم يظهر في الصفحة 13 العرّاف الهندي وهذه شخصيةٌ وظيفيّة أخرى في بنية الحبكة، ظهر فقط ليفسّر لبودي حلمه، وبأنه سيموت، وستنتقل روحه إلى الجنين الذي تحمله هيلينا في أحشائها، ومن هنا يبني حمادة عقدة حبكته الهيّنة والأفقية في مسارها الزماني والمكاني، وتصير هواجس رودي منصبّةً في فكرة التخلّص من ذاك الجنين ليقطع الطريق على رحلة تقمّصه المحتملة من أن تتم، دون أن تبتكر حبكة حمادة أي معنى جديد لاستمالة السرد صوب منعطفات جانبية تجعل من تقدّم الحدث زمنياً تجربةً أكثر خصوبة وغنى من بقاء عقدة الحبكة تنزُّ المزيدَ من أفكار رودي والتي بدت وكأنها تتقافز على جانبي هذيان تسلّط عليه، وأرهقه بين كيفية تقبّله لنهاية حياته بصورتها الراهنة تلك، وبداية حياته الجديدة كطفل لامرأة تبيع جسدها لأجل المتعة واسمها هيلينا، وأب سكّير أخرق واسمه فكتور.

حمادة وورطة الصورة البصرية مجدداً!

هل فكّر ممدوح حمادة بأن تكون روايته "ضمانات للمستقبل" مشروع فيلم أميركي؟! ربما!! فهو صنع حبكته من وصفةٍ تلصصت كثيراً على أدبيات صناعة الفيلم الأمريكي، وتقنياته المقبولة والمستساغة هناك، إذ تظهر معظم الحوارات بين الشخصيات وكأنها اقتباسات من اللسان الأمريكي في لغته اليومية. في الصفحة 34 يدور حوار بين رودي وإدوارد وهو بلطجي يعيش في الشارع 185 المتقاطع مع أفينو سانت نيكولاس أحد أوكار المافيا في نيويورك.

رودي: عصابة، هل تعرف عصابة يمكن أن تنفذ لك طلباتك مقابل المال؟

أي طلبات؟ تساءل إدوارد.

رودي: اختطاف امرأة...هل شاهدت فيلم... يا إلهي لم أعد أذكر اسمه...ربما العنكبوت.

تستسيغ بيئة الحبكة المزاج التوصيفي الأمريكي ليس في حوارات السرد فحسب، وإنما في لغة الوصف، وملمس كلماته، وهذا نجده في أمثلة متعددة منها: "لأن الخسيس جون شهد مع جيمي" الصفحة 21، و"هذا الوغد لا يتحدث فيما لا يعرفه" الصفحة 22، و"في أحضان رونالد الطيّب" الصفحة 23.

كما لا يتستّر حمادة على إظهار شغفه بصناعة المشهد البصري داخل سرده، وهذا ظهر عندما كانت كوابيس هيلينا وجنينها تترصّد رودي في نومه، أحد تلك السرديات البصرية تنقشع لنا في الصفحة 37، حيث نقرأ: "...فتح عينيه، وشاهد خلف زجاج النافذة المقابلة له طفلاً حديث الولادة يسبح في حوض مليء بسائل شفّاف لزج. كانت نافذة رودي جداره، التصقت يدا الطفل بزجاج النافذة، وامتد حبل مشيمته إلى ما فوق النافذة، التي كان يبدو في أعلاها قدمان تتأرجحان لامرأة يبدو أنها مشنوقة. ابتسم له الطفل ابتسامةً بريئة، وكان يضرب بقدمه على حافة النافذة من الخارج دلالةً على فرحه، وسرعان ما انكسر الزجاج وتدفق السائل إلى الغرفة، ودخل الطفل مع التيار المتدفق، وأخذ يصيح طالباً النجدة باللغة الإسبانية التي لم يكن رودي يفهمها..."        

خمسة احتمالات لنهاية واحدة

انغمس السرد كلّياً بلغة تقريرية قليلة الخصوبة، فقيرة الوصف، بالكاد نلمح وصفاً واحداً عبر صحراء لغة السرد بسلام، نعثر عليه في الصفحة 59: "...ولذلك سقطت مع أول هبة ريح، مثل ورقة صفراء أعياها الخريف". 

ويلجم الثبات جميع الشخصيات الوظيفية التي استعانت بها حبكة حمادة، إلا شخصية البطل، شخصية رودي التي تطورت بفعل عقدة الحبكة من شخص مناهض للإجهاض إلى شخص مبررٍ له، ومن شخص لا يملك تضاريسَ تميّز حياته، إلى شخصٍ براغماتي يبرر أي فعل يقدّم له الخلاص والمنفعة.

ثم يترك ممدوح حمادة حبكته معلّقة النهاية، مقدّماً لنا خمسة احتمالات لمصير رودي لحظة ولادة هيلينا لطفلها، الأول هي رواية العرّاف الهندي الذي أكد أن رودي مات وصار اسمه بابلو على اسم والد هيلينا، والاحتمال الثاني أن هيلينا ولدت على عجالة في ممر المستشفى ولم يتمكن ملاك الموت من استحضار روح رودي، فجاء بروح أخرى إلى جسد ابن هيلينا، أما رودي فسيق إلى السجن بعد محاولة قتله للعراف الهندي. أما الاحتمال الثالث فجاء على لسان عاملة في ملجأ للأيتام وتفيد بأن هيلينا اختفت من المستشفى بعد ولادة طفلها الذي يحمل اسم جيمس، ثم سلّمت إدارة المستشفى الطفل إلى ملجأ أيتام وهذه رواية سيليا حبيبة رودي، لكن الاحتمال الرابع الذي ساقه السرد ورجّحه، هو أن رودي أفاق من تأثير حبوب المنوم التي كان يتناولها للتغلب على أرقه، فوجد صاحب البيت الجديد يطالبه بتنفيذ عقد البيع وإخلاء المنزل، ولما سأل عن هيلينا في المستشفى قالوا له بأنها وضعت طفلها وغادرت ولم يُعثر عليها، وهذه رواية مالك منزل رودي الجديد، وأخيراً الاحتمال الخامس وهو أن رودي استيقظ على صراخ طفل وليد أمام باب بيته، ومعه رسالة من هيلينا بأنها تركت له الطفل لأنه مهتم بمصيره، واختفت، وهذه رواية متشرد يلبس بدلة بيضاء، ويعيش في نعش قرب الحديقة المركزية في نيويورك، واسمه رودي.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات