بحضور حشد غفير غصت به صالة دار الأتاسي في إسطنبول، تم مساء يوم 14 آب/ أغسطس الجاري، حفل توقيع كتاب (آل الأتاسي في العهد العثماني) لمؤلفه فارس الأتاسي، الصادر عن جمعية الأتاسي الاجتماعية في تركيا، ودار الأصالة.
وقد سبق حفل التوقيع الذي أشرف على تنظيمه بأناقة وإتقان الفنان همام حوت، عرض فيلم قصير عن آل الأتاسي أخرجه أيمن اقبير، ثم كلمة لمؤلف الكتاب، شكر فيها كل من ساهم في دعم إصداره وعلى رأسهم رئيس مجلس إدارة جمعية الأتاسي (محمد نور الأتاسي) الذي وصفه بأنه: " صاحب فكرة الكتاب والأب الروحي له" فضلاً عن الدكتور باسل أحمد حبيب الأتاسي، جامع تاريخ العائلة على مدى عشرين عاماً، والدكتور أحمد نظير الأتاسي مدرس مادة التاريخ في جامعة لويزيانا التقنية.
ثلاثة رؤساء وغدر حافظ الأسد
يدرس كتاب (آل الأتاسي في العهد العثماني) التأثيرات الاجتماعية والسياسية للعائلات في سورية العثمانية، وهو يصدر دراسته الشيقة تلك ببيبلوغرافيا: (الخط الزمني لعائلة الأتاسي) الذي يرصد إساهمات آل الأتاسي وشخصياتهم البارزة في سوريا، منذ القرن الخامس عشر الميلادي، حين تم تأسيس الأوقاف على يد الشيخ علي الأتاسي من قبل حاكم حمص إبراهيم بك ذي القادر والأمير تمريغا، ثم التقاء الشيخ شمس الدين أحمد بن خليل الأتاسي بالسلطان سليمان القانوني في حلب عام 1553 وفوزه بالتدريس في المدرسة القصاعية بدمشق ثم بمنصب مفتي حمص، ليكون أول مفتٍ في تاريخ حمص.. وصولاً إلى القرن العشرين حيث أصبح ثلاثة من آل الأتاسي رؤساء جمهورية: هاشم الأتاسي: 1936 ثم 1949 ثم 1950 لؤي الأتاسي: 1963، نور الدين الأتاسي: 1966 وحتى عام 1970 حين قام وزير دفاعه حافظ الأسد باعتقاله بعد تنفيذ الانقلاب العسكري وأودعه في السجن لمدة 22 عاماً ولم يفرج عنه إلا بعد تفشي السرطان في جسده، حيث خرج ليموت بتاريخ 3/12/1993 كما تأتي هذه البيلوغرافيا على ذكر عشرات النواب والوزراء والسفراء والمفتين الذين ينتسبون إلى العائلة، التي يوجد أبناؤها في سوريا كعائلة سياسية ودينية منذ العهد المملوكي، وتبوؤوا مناصب سياسية ودينية مختلفة منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أكثر من ستة قرون من الآن.
حمص بين الازدهار والأفول
لكن الكتاب وإن كان يركز على تاريخ العائلة، ويحاول أن يقدم إضافة هامة في مجال التأريخ الاجتماعي المفتقد في المكتبة السورية عموماً، فإنه لا يغفل تاريخ حمص التي ارتبط بها آل الأتاسي وباتوا معلماً من معالمها، وعنوانا من عناوين نشاطها الاجتماعي والسياسي في حقب مختلفة، فيتحدث عن نشأة المدينة التي تتوسط سهلاً زراعياً خصباً في وسط سوريا، ويشير إلى أن المدينة تأسست بين (305- 280) قبل الميلاد على يد سيلوقيس الأول نيكاتور، وتم ضمها في عهد بومبيوس عام 64 قبل الميلاد إلى الإمبراطورية الرومانية، أي إن عمر المدينة ينوف على ألفين وثلاثمئة عام، وقد بلغ أوج ازدهار حمص خلال العصر الروماني، التي عرفت فيه باسم (أميسا) بعد زواج القائد الروماني سبتيموس من الأميرة الحمصية جوليا دومنه، ابنة كاهن معبد إله الشمس. وقد أضحت حمص بسبب مصاهرتها للقائد سبتيموس مركزاً للإقليم الروماني، وقد استطاعت حمص من خلال معبد الشمس أن تتربع على عرش روما سيدة العالم في ذلك العصر، كما استطاعت أن تتحكم في مصير الإمبراطورية الرومانية لمدة خمسين عاماً. أما في العهد المسيحي فقد أنشئت في أوائل القرن الخامس الميلادي أسقفية في المدنية تتبع لدمشق، لتتحول إلى مركز ديني بعد اكتشاف رأس يوحنا المعمدان بالقرب منها، أما في العهد الإسلامي فقد فُتحت المدينة عام 636 ميلادية على يد أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد دون إراقة دماء، ثم غدت بعد الفتح قاعدة عسكرية أُطلق عليها اسم "الجندي المتقدم" وقد دُفن في المدينة حوالي 500 من الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل خالد بن الوليد الذي طبع المدينة بطابع شهرته التاريخية الواسعة.. وفي فترة الحروب الصليبية كانت حمص من أقوى خطوط الدفاع الإسلامي ضد الصليبيين، وهذا ما دفع أعداداً كبيرة من المهاجرين جلهم من التركمان والشركس إلى الهجرة من بلاد السلاجقة نحو حمص.
ويشير الكتاب إلى أن حمص قبل العهد العثماني كانت تمر بفترات انتعاش وقترات انتكاس، فتارة تتصدر المشهد وتارة تُنسى من قبل الحكام، إلى أن دخل السلطان سليم الأول سورية عام 1516 وتم تنظيمها إداريا مع حماة كسنجق واحد يتبع لولاية الشام، لكن ذلك لم يدم أكثر من نصف قرن، ليتم فصل حمص عام 1568، لتكون سنجقاً/ لواءً مستقلاً وتبقى على هذه الحال حتى منتصف القرن التاسع عشر.
الإفتاء تاريخ وأدوار وشروط
يفند الكاتب في سياق تقاطع تاريخ المدينة مع تاريخ العائلة الادعاء القائل بأن آل الأتاسي قدموا إلى سوريا مع مجيء العثمانيين.. وأنهم كانوا من التركمان الذين أسكنهم السلطان سليم جانب القلعة، في حين أن تاريخ الوفاة المدون على قبر الشيخ علي بن خليل الأتاسي في جامع الدحية بحمص: (11 ذو القعدة 904هـ/ 1509 م) ناهيك عن أن العودة إلى مخطوط إبراهيم الأتاسي إمام قلعة شيزر بالإضافة إلى أوقاف أمراء المماليك على الشيخ علي وآل الأتاسي تبيّن أن آل الأتاسي موجودون في المنطقة قبل دخول العثمانيين سوريا بقرن ونصف على أقل تقدير.
على أن أهم ما يقدمه الكتاب في سياق تتبع النشاط الديني لآل الأتاسي، ذلك الشرح المستفيض لتاريخ الإفتاء ووظيفته الدينية والاجتماعية، وشروط اختيار المفتي ملاحظاً في هذا السياق، أنه في حين كان أغلب العالم العربي يتبع المذهبين الشافعي والحنبلي في القرون الوسطى كانت الدولة السجلوقية في الأناضول تتبنى المذهب الحنفي، ثم صار فيما بعد المذهب الرسمي للدولة. وكانت عائلة الأتاسي منذ العهد المملوكي تتبع المذهب الحنفي، ما فتح لها طريقاً لممارسة السلطة الدينية في ظل الحكم العثماني.
رغم أن نشاط الإفتاء في قضايا الدين كان نشاطاً ملازماً للدولة الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين، ورغم أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بذل جهوداً لتحويل هيئات الافتاء إلى جهاز رسمي في الدولة، فإن مهمة الإفتاء ظهرت كمنصب رسمي مع تشكّل المذاهب الإسلامية، وإدخالها ضمن الطابع المؤسساتي من قبل الدولة. وفي العهد العباسي كان توزيع المهام بين القاضي والمفتي بحيث ينظر الأول إلى المسائل العدلية وينظر الثاني في المسائل الدينية، وكان حل المشاكل داخل علاقة القضاء – الإفتاء، عاملاً هاماً في رسم الخطوط العريضة لتلك المناصب، لكن البداية الحقيقية لجهاز الإفتاء الذي بات يأخذ دوراً حقيقياً في إدارة الدولة كانت في العهد المملوكي، فقد كان سلاطين المماليك ملزمين بإعطاء الفتوى في الأحكام الشرعية بالدواوين التي أقاموها، وقد وُجد رجال الفتوى من كل المذاهب في تلك الدواوين، ومع الزمن أصبحوا يشاركون السلطان في حملاته العسكرية. أما في العهد العثماني فقد شملت وظيفة الإفتاء مهام أخرى كالتدريس والوعظ وتولي الأوقاف ونظارتها.
وكان من الأمور الهامة التي يتم النظر إليها في تعيين المفتي، جذوره في المنطقة وماضي العائلة، فاختيار الشخص للإفتاء لا بد أن يكون من عائلة علماء، وأحياناً ضمن سلسلة علماء ومفتين من الجد إلى الأب والابن، وكان القاضي يستشير المفتي حين يتردد أو يحتار في أمر ما، وفي هذه الحالة تكون الفتوى وسيلة هامة لإصدار الأحكام.
وكان الإفتاء يعطى في الغالب مدى الحياة، أي إن الاستمرارية فيه تخلق نفوذاً بحكم المكانة الدينية والاجتماعية لصاحبه، ولذلك ينبغي ألا يكون المفتي من أصحاب الغايات وأن يكون هذا حلم وحلم لفهم التقلبات واحتواء الأزمات. وبذلك يمكن فهم وظيفة الإفتاء على أنها في بعدها الاجتماعي كانت تسهم في إشاعة الاستقرار الاجتماعي، وتفعيل الروح الأهلية للمجتمع عبر ترسيخ نفوذ العائلات وتوظيف مكانتها الاجتماعية في هذا السياق.
ويذكر الكتاب أسماء وتراجم المفتين في مدينة حمص مذكراً أن الشهاب شمس الدين أحمد الأتاسي أول مفتٍ من آل الأتاسي وأول من تسلم منصب الإفتاء في حمص بعد استحداثه في المدينة عام 1553
دعم حركات العصيان المدني
ولا يجدر بنا الظن أن المفتين كانوا أدوات سلطة تشرعن الوضع القائم، بمعزل عن إيمانهم العميق بضرورة إقامة العدل ورد المظالم.. إذ يذكر الكتاب أن المفتي علي الأتاسي في القرن الثامن عشر، شجّع العصيان المدني الذي قام به أهالي حمص عام 1710م بعد أن قاموا بإغلاق الأسواق والاجتماع عن القاضي بسبب فساد إسماعيل آغا (شيخ السوق) وما رأوه "من الظلم والتعدي والفساد، ووتقييد الخلق وأخذ أموالهم بالباطل" وقد أدت هذه الحملة الشعبية إلى القبض على إسماعيل آغا، ومصادرة أملاكه في حمص. كما ساهم المفتي بعد أربع سنوات من هذا العصيان، بعصيان مدني آخر ضد متسلم حمص حسين آغا الدندشي، حيث تزعم المفتي الأعيان والقاضي ونقباء الأشراف ووفد المسيحيين في المدينة ومشايخ الكار، وشمل هذا العصيان إغلاق الأسواق وتعليق الأذان والصلاة في المساجد، ما يدل – كما يقول المؤلف – "على تنسيق كامل مع عناصر المؤسسة الدينية في المدينة".
التأريخ الاجتماعي ورصد التحولات
إن وراء هذا البحث الظاهري لفارس الأتاسي في تاريخ عائلته التي يعتدّ بتاريخها وبأنه واحد من أبنائها، يكمن الهدف الأعمق للكتاب: التأريخ الاجتماعي لحمص التي عشقها آل الأتاسي وكبروا بها وكبرت بهم، وقراءة ظواهر المجتمع وبنية تحولاته، وآلية تشكل زعاماته المحلية، وبنية الصراعات التي كانت تحكم تحركات العامة وتصنع الحيوية الاجتماعية للمجتمع المدني في تلك الفترة..
وإذ ينظر السوريون إلى تلك القرون التي خلت، وإلى نمط الحكم الذي يفترض أنه تبدل إلى الأفضل.. سيشعر الكثيرون اليوم بالتحسر، على أن ثقافة العصيان المدني كان لها محل من الإعراب في سجل حياتهم اليومية، فيما صارت في ظل حكم البعث وإجرام الأسد الأب والابن، نوعاً من الانتحار الجماعي الذي قد يؤدي إلى ارتكاب مجزرة!
وليس هدف الكتاب إثارة أي نوع من الحنين إلى العهد العثماني الذي غاص المؤلف في سجل وثائقه، وترجمها وعرضها لنا، لكن الهدف بالتأكيد القول إنه في ظل حكم البعث، لا العائلات الكريمة لها دور.. ولا المفتي يمكن أن ينحاز إلى مطالب الناس.. ولا الحياة التي كنا نحياها تشبه في مظالمها وجورها وعسفها حتى أسوأ مراحل الاضطراب في أي عهد مضى!
التعليقات (9)