تزخر مخيلة العميد إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس بالكثير من الصور النازحة عن مدار الهذيان والهلوسة، وأحدثها تلك التي ترصّد فيها مخططاً جهنّمياً يعدّهُ حزب الله اللبناني لإزالة الكيان الصهيوني - على حدّ وصفه - من الوجود، وغالباً ما ترتدي كلمات قاآني نقابَ التعالي، ورؤية الوجود من موشورٍ مضطرب الزوايا، مشوّه، يعيبُ الرؤية من أساسها. ولم تلقَ تلك الهلوسة السياسية البرّاقة الاستحسانَ المنتظر منها لدى ما يسمى بـ "جمهور المقاومة" وهم على أيّ حال فئةٌ مجتمعية عابرة لحدود سايكس بيكو، متنازلةٌ عن وعيها السياسي في فهم طبيعة الصراع الحقيقي وجدليته، لمصلحة الاستمتاع بفيء الشعارات الزائفة، وقبول دمجها بمنظومة وعيها وتفكيرها، فنجدهم في لبنان، وفي سوريا، وفي العراق أيضاً، أي ضمن الجغرافيا التي وصلت إليها رايات دولة الخميني، وعكّرتْ ماءها، واستقرت في النسيج الاجتماعي الحيّ كالسرطان، مثلها في ذلك مثل الأنظمة التسلطيّة الوظيفية التي تعسفُ ممارساتُها بشعوبها على خطّ النظر الواصل بين سوريا ولبنان والعراق.
إيران احتلالٌ أرهق الجميع به!
انتظرت روسيا انقشاع الغبار الذي أثاره تصفيةُ عصابة راجي فلحوط في السويداء إثر هجوم نفّذهُ ائتلاف مجموعةِ فصائلَ محليّة مسلحة أواخر الشهر الماضي، لتطلُّ مجدداً على المشهد هناك، بحذرِ المستطلعِ وشكوكه المستفيضة، واختارت الاجتماع بليث البلعوس نجل الشيخ الشهيد وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة، أرادت الاقتراب منه، وجسّ آرائه بوصفه أحد الشخصيات المثيرة للجدل والتكهنات داخل المجال الحيوي لدروز السويداء، بعدما أخرجه الشيخ يحيى الحجار قائد حركة رجال الكرامة من بيارق الحركة، وتشكيلاتها المسلحة عام 2016، ليتنقّل الشيخ الشاب ومجموعته المسلحة بين تشكيلات متعددة الولاءات والتسميات بين قوات شيخ الكرامة، ثم الشريان الواحد، وصولاً إلى قوة مكافحة الإرهاب التي غادرها كما غادر سواها، ومؤخراً أعلن مع فصيله المسلّح تسميتهم الجديدة: رجال الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، ومقرهم في بلدة المزرعة التابعة لريف السويداء الغربي.
تظهر السياسةُ فصيحةً داخل بنية حديث الشيخ الشاب، خلافاً لمنهج التحفّظ المحبّب لدى غيره من قادة الفصائل المسلحة، يجاهر بموقفه المناهض للوجود الإيراني داخل السويداء، ويرمي به أمام نائب قائد الشرطة العسكرية الروسية، والوفد الذي صاحبه حين اجتمع به مطلع هذا الشهر، وحمّل الوجود الإيراني مسؤولية انتشار المخدرات تجارةً وتعاطياً في السويداء، ودورها المفضوح باستفحال الفلتان الأمني داخل المشهد العام، لذلك طالب بإخراج المجموعات المسلحة التابعة لميليشيا حزب الله اللبناني ولإيران على السواء، بالإضافة إلى مجموعة مطالبَ أخرى اعتبرها الشيخ البلعوس بمثابة مطالبَ لأهل السويداء جميعاً، ومنها حصر الخدمة العسكرية للشباب الدروز داخل المحافظة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين من الدروز، وإتاحة حرية العمل السياسي بما فيه المعارض للسلطة، وفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات إلى السويداء بعيداً عن قبضة نظام دمشق.
استمع الوفد الروسي، ولم يعلّق، لكنه استوعب على مضض المنطق الجديد عليه كلياً في حديث هذا الشيخ الشاب، والذي لم يلحظه في أحاديث من كان يلتقيهم من شخصيات درزية منغمسة بعبودية نظام بشار، قالوا: سننقل مطالبك، وسيفعلون، لكن ربما لا يعودون إلى لقائه مجدداً، فالروس لا يعنيهم بشار ونظامه بقدر ما تعنيهم تحالفات الآخرين، قد يتساءلون: مع من يرتبط هذا الشيخ من قوًى خارجية؟! وأين تقع أمريكا داخل بوصلة حساباته؟! فمنهجية التفكير الروسي الاستراتيجي تضع مقياساً من واحد إلى عشرة تصنّف فيه درجة ارتباط الآخر بأمريكا، وهذا ما لاحظه د. برهان غليون حين كان رئيساً للائتلاف السوري المعارض، وحين اجتمع بلافروف وزير خارجية روسيا أكثر من مرة، ونشر خلاصات اجتماعاته تلك في كتابه القيّم عطب الذات.
سلاح الدروز وطنٌ بلا عنوان
ما من إحصائيات تقريبية تبيّن حجم السلاح الذي يغذّي الفصائل المسلحة، أو حتى الأفراد داخل السويداء، لكنه، وبالاستدلال النظري سلاحٌ متنوع من الخفيف إلى المتوسط، من الدفاعي إلى الهجومي، ويكفي لفتح جبهة حرب واسعة على أي حال. لكنه سلاحٌ مكمّمُ الفم، عاجزٌ، غيرُ منحازٍ أيديولوجياً لا إلى النظام، ولا إلى المعارضة، هو السلاحُ المخطوف إلى جهات الصمت، وربما أخرجته العصابات المنظمة (عصابة فلحوط أشهرها) من دائرة البطالة تلك، إلى دائرة الفاعليّة حين وجّهته نحو الخطف والبلطجة والقتل وتهريب المخدرات، وصار في آن سلاحَ أجهزة النظام القمعية من الأمن العسكري، وأمن الدولة، كما أظهرت ذلك العديدُ من الوثائق التي أُلقي القبض عليها وهي نائمة في مقرات الحركة الفلحوطيّة المسلحة إن جازت تسميتها على هذا النحو، بعد تصفية مكوناتها ومقرّاتها الشهر الماضي.
ذاك السلاح تكدّس تدريجياً عند الدروز بفعل تشرُّد النزاع المسلح، وسلوكه طرقاً عديدة، بعدما جفّت عروق الثورة السورية في أعوامها الأولى، الأمر الذي أقلق الدروز، وجعلهم معنيين بحماية أمنهم الذاتي، وقد تناوبت على فكرة تسليحهم شخصياتٌ درزية محلية وإقليمية، وجهات متعددة منها مدنية ومنها مخابراتية محلّية، ولكل حساباته ومرجعياته المختلفة. لكن الثابت بمكان أن الوجود الإيراني في السويداء بشقيه المرئي والخفيّ بات أمراً مستنكراً وعلى نحو اجتماعي واسع، ولا سيما بعد ثبوت تبنّيه لتجارة وصناعة المخدرات داخل المحافظة، واطّلاعه على نحوٍ وثيق بالملف الأمني الخاص بالسويداء، وإدارته السيئة عن قصد وذلك بالتعاون مع أجهزة السلطة القمعية المناط بها هذا الشأن، ولأن إيران تعلم جيداً أن السويداء لا تشكل عمقاً استراتيجياً لها، وليس فيها حاضنة اجتماعية آمنة لهلوسات نفوذها الإقليمي، ولا حتى لأفكارها المعدّة للتصدير الخارجي مثل انتصار ثورتها الإسلامية، واتساع عباءة ولاية الفقيه فيها، وتسمين شعارات ديماغوجيّة كـ "الموت لأمريكيا وإسرائيل" ونحو ذلك، فقد سعت لتحويل المحافظة إلى مجال عملٍ حيوي لها هدفُه جني الأرباح الريعية لتمويل مساعي بقائها في الجغرافيا السورية قدر المستطاع، فهي لا تثق بحليف نظام دمشق الثاني، أي روسيا، وإنما هي مضطرةٌ للتعايش معه على مضض، فالروس حدّوا كثيراً بواسطة جهاز شرطتهم العسكرية من النفوذ الإيراني على الأرض السورية دون أن يحجّموه، ومع ذلك رفض قائد حركة رجال الكرامة الشيخ يحيى الحجار استقبال الوفد الروسي الذي استقبله نجل الشيخ البلعوس في بلدة المزرعة، لكنه لم يمانع من استقبال أي وفد روسي ذي تمثيل عالٍ يتخطى مسؤولي الشرطة العسكرية الروسية، الذين اعتادوا زيارة السويداء في جولات تفقديّة ذات طابع استطلاعي أخذت تتقاعس بعد الحرب الروسية الأوكرانية دون أن تختفي كلياً.
التعليقات (1)