رواية (حبر الغراب) لممدوح عزام: سوريا ونصف قرن إلى الوراء

رواية (حبر الغراب) لممدوح عزام: سوريا ونصف قرن إلى الوراء

لا ينحاز ممدوح عزام في روايته "حبر الغراب" الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، عام 2021 إلى لحظة الراهن المَعيش في سوريا، ولا إلى تماديها في إعادة نحت وتشكيل مفهومي الزمان والمكان، أو تكوين الشخصيات بمفهومها الطقسيّ المتبدّل داخل الفضاء الروائي. ففي روايته الأخيرة نجده وقد عاد إلى نهاية الخمسينات وبدايات الستينات من القرن الماضي، من هناك صاغ سرده، ووجد منابتَ شخصيات ذاك السرد ومآلات تحولاتها، في حبكة ذهبت نصف قرن إلى الوراء لتكتشف انقلاب البعث مجدداً، والتدابير التي جاء بها ذاك الانقلاب إلى شخصيات السرد الكثيرة.

ثنائية كتب السماقيات والشخصيات

يطوف سرد عزام على أكثر من عشرين شخصية، لا رابط بينها سوى نهب مكتبة السماقيّات، ووصول بعض كتبها إلى تلك الشخصيات، فيجد الراوي دوماً رابطاً ما، يكون أشبه بالمصادفة التي تجمع ما بين بطل الكتاب المنهوب أو عنوانه، مع الشخصية التي وصل إليها، وبهذا الميكانيك الالتقائي يشيّد عزام حبكته التي تدور حول شخصيات كلّ ما يجمع بينها أن عنوان منبتها هو السماقيّات، وسبب وجودها في كيان السرد أنها اقتنت، ولسبب ما أحدَ كتب المكتبة المنهوبة.

احتاج عزام لشخصيةٍ مفتاحيّة لأجل العبور إلى باقي الشخصيات، واستيضاح سير حياتها، فكان توفيق الخضرا الذي حاول من خلاله إيقاظ حادثة نهب المكتبة، ومقتل فارس أبو لوز القيّم عليها، ومن ثمَّ تفحُّص مصائر كتبها المنهوبة، وكان هذا هو المعطى الوحيد لتبرير الحبكة وإنشائها، وكان أيضاً سبباً في إفقارها وتلكُئِها في خطّها العام، فالحبكة تُحيلنا غالباً إلى ثنائيات متقابلة من كتب مكتبة السماقيات، وشخصيات وصلت إليها تلك الكتب. مثل شخصية بافل فلاسوف في رواية (الأم) لمكسيم غوركي مع شخصية فؤاد أبو علم، وثلاثية نجيب محفوظ وروايته (السراب) مع شخصية راضية الحلبي، وكتاب قادة الفكر لطه حسين مع شخصية كامل الفهد، وقصة (صاحبة الكلب الصغير) لتشيخوف مع شخصية حاتم غزال، وكتابَي (زهرة العمر) و(سجن العمر) لتوفيق الحكيم مع شخصية كاميليا شمال، وكتاب (البؤساء) لفيكتور هيجو مع شخصية مسعود شمال.

كانت الشخصية لدى عزام تلتقي بكتابها في علاقة قدريّة، كأنما وجدتها الحبكة ملقاةً أمامها إما كمصادفة حيّة، أو بسبب قصة حب، أو لنقلِ رسائلَ تُدَوّن كهوامش على صفحات الكتاب بين أحبّاء يرمّزون عواطفهم، أو لشبهٍ ما بين بطل الكتاب وإحدى شخصيات عزام، لكن هذا أغرق الحبكة بالقصص الجانبية، وهو في آن ما جعل تلك القصص تصير هي الحبكة نفسها، فنجد كيف أن الكاتب نذرَ جهداً كبيراً لبناء الذرى الصغرى لتلك القصص محاولاً رفع قيمتها وجعلها تتصدر انتباه القارئ، وهو يعلم بأنه يدعو القارئ إلى مائدة واسعة تشتتُ الانتباه أصلاً.

حبر الغراب سردٌ لسيرٍ شخصية 

ليست رواية (حبر الغراب) سوى حكايات شخصيات، إذ لم يتبدل الحدث المفصليُّ فيها، ولم يتطور، أي حادثة نهب المكتبة ومقتل قيّمها فارس أبو اللوز، فالراوي اشتغل كثيراً على مفعول الشخصية، وراهنت حبكته على ذلك، وكأنه الرصيد الكافي والمتاح لاشتغالات السرد الممكنة داخل تلك الحبكة، والتي خالطها لون السياسة دون أن تغرق به، فشخصية توفيق الخضرا لاقت اتهامات سياسية مشوّشة تراوحت من أنه مُنتمٍ إلى حزب العمال الثوري تارةً، وتارةً أنه تروتسكي الهوى، كان ذلك في زمن ازدهار التقارير، وتباهي الحيطان بأن لها آذاناً، ولدينا شخصية فؤاد أبو علم الذي اعتُقل في زمن الانفصال بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي، نتيجة لبسٍ وقع فيه بعد تعلّقه المفرط بشخصية بافل فلاسوف في رواية (الأم) لمكسيم غوركي، وهو كتاب واظب على استعارته من مكتبة السماقيات. كما هناك شخصية سليم الراضي الذي اعتُقل بعد سقوط ديكتاتورية الشيشكلي بخمسة أشهر، وهو الذي أوجد عملاً لفارس أبو لوز في مكتبته أثناء إكمال دراسته الإعدادية والثانوية في السويداء، ثم شخصية كريم الزهر أحد تشعبات السرد، وحبُّ محمودة العابر، أكمل تعليمه في السويداء ولاحقته شائعات حول تردده على أرملة ورغبته بالزواج منها، وبانتمائه إلى الحزب الشيوعي. وعلى المقلب الآخر نجد شخصية لطفي الجمل بما يمثل من صعود سلالة اجتماعية جديدة إلى السلطة بعد استيلاء البعث على حكم سوريا، وهو من أمر بإنهاء وجود مكتبة السماقيات، كونها تشكل إرثاً سابقاً لزمن البعث الذي أراد بقدومه تثبيت صورة جديدة للحياة، وعلى الضفة نفسها نجد شخصية كمال الفهد الشاب التواق إلى السلطة الذي وجد إسنادات مكّنته من تغير اسم عائلته إلى الفهد، وهذا أتاحَ له اللحاق بمعين الفهد الملقب بالباشا الكبير، ابن السماقيات، وصاحب الشأن العالي بعد انقلاب البعث.

لغة السرد تستّرت على باقي العيوب

استطاع ممدوح عزام الثبات على إيقاع سرد شيّق أنقذ حبكته من الإصابة الكليّة بالدوار والإضجار جرّاء تشعبات السرد الكثيرة داخل حبكة الحكايات الجانبية وكثرة شخصياتها. لغته أيضاً أنقذته في حبر الغراب، فاستطاع تطويع كثير من الصور وجذبها إلى فضائه الروائي، وأمثلةُ ذلك نجدُها في: كانت يده عجراءَ يابسة مثل عود شجرة ص8، تيبسُ الغيوم عند خط الأفق الغربي قريباً من قمم جبل الشيخ، وينشف الماء منها ص21، رتابة يومية بيضاء يابسة ليس فيها أي لون، وسلالة من الفقر المتراكم الذي يغلق العالم أمامه، كانوا محشورين في بطانةٍ من نعاس الظهيرة ص28، ولكن الضعف نفسه بات يشدّه إلى الجذاذة الأخرى من وجه الحياة ص103، كان يتضاءل أمامها مثل قميص ص155، مدينة تراقب الداخل والخارج، لكنهما استطاعا خداع المدينة ص194، يتنهد أحياناً ساحباً الهواء من الظهيرة ص202، كانت الدولة أحد الآلهة التي تقطن بعيداً عن البشر، وتدير شؤونهم بالعصا والكرباج والسجون والشرطة والجيش ص218.

في (حبر الغراب) ثامن روايات ممدوح عزام وأحدثها، استيقظت شخصياته دفعةً واحدة اعتباراً من اكتشافنا لتواطؤ لقمان لقمان على حادثة نهب المكتبة، ووصولاً إلى اكتشافنا حب فارس أبو اللوز لمسعودة شمال قبل مقتله بقليل، وكأنها استفاضاتٌ مؤقتة حدثت للتو، ثم عادت دفعةً واحدة إلى قيلولتها الطويلة التي تشبه النعاس والضجر.  

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات