الارتداد إلى العشائرية في المجتمع السوري: خطوة للأمام أم نكوص إلى الوراء؟!

الارتداد إلى العشائرية في المجتمع السوري: خطوة للأمام أم نكوص إلى الوراء؟!

إنه ليس من الجديد أن نذكر أن نظام الدولة هو أرقى ما توصّلت إليه الحضارة الإنسانية عبر تراكمات كثيرة من التطور أخذت من الوقت ملايين السنين، الله وحده أعلم بعمقها وقدْرها.

كانت البداية الأولى بخلق آدم عليه السلام من طين الأرض، ثم نفخ الروح فيه وتعليمه الأسماء كلها، وخلق حواء مؤنسة له، ثم بمخالفتهما لما أمر الله به من الامتناع عن أكل ثمرة شجرة بعينها، ونزولهما إلى الأرض عقوبة لهما على مخالفة رب العزة؛ ليكونا وذريتهما "البشر" خليفة لله في أرضه.

أبناء آدم وعمارتهم للأرض

منذ النشأة الأولى كان البشر يضيفون إلى معارفهم وأنماط حياتهم أشياء يبتدعونها أو يرثونها عمن قبلهم ويضيفون إليها أنماطاً جديدة جيلاً بعد جيل، فلقد بدأت الحياة على الأرض بسيطة ومتطلباتها محدودة، وكان البشر قليلين، وإدارة شؤونهم غير معقدة.

لكن مع تقدم الزمن وكثرة الخلق، استوجب على البشر أن يُفرزوا إلى بيوتات لتسهّل عليهم إدارة شؤونهم، ثم تطورت هذه الحكاية لتصل إلى شكل قبيلة أو عشيرة مؤلفة من عدد من البيوتات يرأسها زعيم يدير شؤونها, فظلت البشرية بنظامها القبلي مئات السنين إلى أن طورته إلى نظام الدولة, فالدولة هي أرقى ما توصّلت إليه البشرية من نظم وأساليب إدارة.

نظام الدولة والارتداد إلى الوراء

عندما وصلت البشرية إلى هذا المستوى من التنظيم أي نظام الدولة، أدى ذلك إلى ضعف دور القبيلة؛ لأن الدولة ومؤسساتها حلت محل زعيم القبيلة في حل مشاكل الناس والبتّ في شؤونهم، فصار الناس يلجؤون لحل خلافاتهم إلى قضاء الدولة التي تملك القوة لتنصف المظلوم من الظالم، وهكذا وجدت القبيلة نفسها معزولة ليس لها شأن يُذكر سوى للتعارف بين الناس، أما الخصومات والتقاضي، فمهمة الدولة.

مرت البشرية كثيراً بفترات ضعف وحروب وخراب .. ضعُف دور الدولة فيها إذ أنهكتها الحروب والانقسامات والتناحر على عرشها، ما أدى بالناس إلى الانكفاء إلى القبيلة لحماية أنفسهم ولأخذ حقوقهم من الآخرين في حال أنكروها أو رفضوا ردّها.

القبليّة في سورية في عهد الأسدين الأب والابن

منذ استلام حافظ أسد للسلطة في سورية عام سبعين إثر انقلابه العسكري الذي سماه زوراً "الحركة التصحيحية"، لم يكن مشروعه منذ ذلك الوقت بناء دولة القانون، بل كان مشروعه وما زال في عهد ابنه بشار الأسد هو السلطة، ولم يكن يوفر شيئاً إلا قام به ليكرّس هذا المشروع ويفرضه واقعاً لا يمكن زعزعته، ولذلك لم يكن اهتمامه ينصبّ على إدارة الدولة بشكل قانوني؛ لأن ذلك يريد الشرفاء والنزيهين، وهو لا يريدهم؛ لأنهم لا يعملون لصالح مشروعه السلطوي، فكان يجلب للإدارة كل أفّاق وأفّاك (مقطّع موصّل) لاستلام المناصب الحساسة في الدولة حتى يكونوا تحت سيطرته وبأمره بشكل مطلق رابطاً مصيرهم بأرجل كرسيّه.

فلم يكن قضاء الدولة في عهده إلا ما ندر يحلّ مشكلة شائكة عصيبة ( المنطقة الشرقية نموذجاً)، فالفساد المستشري في مفاصل الدولة شلّها تماماً، ولم يعد بإمكانها كدولة أن تحل مشاكل الناس، فإذا تخاصم اثنان على قضية ما واشتكى أحدهما على الآخر، فإن عليه أن يدفع ليحرك الأجهزة الأمنية لملاحقته، وإذا ما تحركت لجلب الخصم, يكون هو الآخر قد دفع رشوة للجهة نفسها، فتبلغه بقدومها للقبض عليه ليهرب، وهكذا تدوم الخصومات طويلاً ولا تُحل، فيضطر صاحب الحق عندها إلى اللجوء إلى شيخ عشيرته؛ ليذهب هذا بدوره إلى شيخ عشيرة الخصم ليجلس الطرفان في نهاية المطاف في مجلس ما ويحلّا ما بينهما من مشاكل، وتكون أجهزة الدولة الفاسدة شاهدة على ذلك بعدما سلبت من الطرفين أموالاً طائلة.

هذا الوضع دفع بدور القبيلة والعشيرة إلى الأمام في عهد الأسدين.. ما دامت الدولة عاجزة عن حل مشاكل الناس، بل تقتات عليها.

القبليّة والعشائرية بعد الثورة 2011

لقد كان من الممكن استثمار البُعد العشائري للمجتمع السوري بشكل إيجابي للاستفادة منه بعد غياب مؤسسات الدولة وسيطرة قوى الثورة على جزء من الجغرافيا السورية في البداية قبل انكفائها لصالح قوى أخرى لها توجهات وأهداف غير توجهات وأهداف الثورة, كون العشيرة كشكل من أشكال الترابط الاجتماعي بين الناس هي باقية, ولا يمكن إزالتها بسبب طبيعة المجتمع العربي القائم على علاقات القرابة وعلاقات الدم, فقد كان من الممكن لو تم تنظيم العشائر وضبطها إدارياً وتنظيمياً الاستفادة منها في بناء السِّلم الأهلي والتراحم الاجتماعي, لكنّ ما حدث غير ذلك, فقد ظلت العشيرة كجزء من الشعب السوري غائبة عن مفهوم الوطنية, وكان ولاؤها للحاكم وليس للوطن, فبعد انهيار المجتمع السوري بعد 2011 باتت العشيرة حاضنة بدائية بديلاً عن الدولة.

إن حلول العشيرة مكان الدولة كمرجعية أساسية للفرد بما في ذلك الأفراد المثقفون وأصحاب الشهادات, يشير إلى نكوص في الوعي وارتداد خطير على المستوى الاجتماعي, وما من حلٍّ لذلك إلا بوجود دولة تجمع جميع مواطنيها تحت سقف القانون.

ولقد ساعدت على هذا النكوص بل وعزّزته القوى المتصارعة على الجغرافيا السورية، فكانت تقدّم للوجهاء والمشايخ بعض الامتيازات ليضمنوا ولاءهم وولاء عشائرهم، فتسابق هؤلاء إلى أبواب هذه السلطات يبيعونهم صكوك الولاء مقابل الفُتات الذي يُلقى إليهم.

بل وصل الأمر عند بعض الجماعات التي ليس لها شيخ، إلى أن يجمّعوا أنفسهم, ويقيموا وليمة عظيمة يدعون إليها وجوه البلد وسلطته لينصّبوا عليهم شيخاً منهم. أيّ تخلفٍ وأيّ ارتدادٍ بل أي نكوصٍ هذا؟!

إن ما نشهده منذ عدة سنوات في الساحة السورية الملتهبة من إبراز لدور القبائل ومنح مشايخها بعض الامتيازات ما هو إلا ارتداد إلى الوراء.. وتخلّف عما وصلت إليه البشرية.

ومن يظن أن ما يحصل على الساحة السورية منذ أكثر من عشر سنوات هو أمر اعتيادي وطبيعي، فهو مخطئ؛ لأني أجزم أن ما يحدث وراءه أجهزة مخابرات توجّه الدفة إلى الجهة التي تريدها، وهذه الجهة أي العشائرية هي التي تشتّت الناس وتفرّقهم فيسهل توجيههم وتسييرهم كالقطيع عند ذلك.

لقد أدت هذه العملية المدروسة إلى تفريق الناس داخل المجتمع الواحد، ولم يعد هناك رابط واحد يجمع أفراده، بل هناك ولاءات متعددة ومتناقضة جعلت من الهم الوطني العام آخر ما يفكر به هؤلاء.

وإني كلما أمعنتُ في المقارنة بين نماذج من مثل الشهيد العقيد أبو فرات "عسكرياً"، وعمر الشغري "مدنياً"، وبين العاهات التي تصادفني في الشارع والسوق وحتى في المسجد .. يزداد لديّ الإحساس بالهزيمة من الداخل.. كون أنّ أكثر هذه الشرائح من الشعب أقل بكثير من أن ينتمي إليهم من ضحوا بأرواحهم ومستقبلهم من أجل سورية واحدة لكل السوريين تحكمها العدالة، شعارها الكرامة للجميع. 

بل ويتأكد لي ولكثيرين ممن يعايشون هذه العاهات أنّ الطريقة التي يحكم بها نظام الأسد هؤلاء هي الطريقة المثلى لهم كي يستمتعوا بشعورهم بالعبودية أيّما استمتاع.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات