تجميد الأسد في صقيع بوتين

تجميد الأسد في صقيع بوتين

يعتبر الأسد نفسه أنه ربما كان الوحيد بين جميع حكام العالم الذي يقف اليوم بقوة وحزم وإخلاص مع روسيا البوتينية في حربها الظالمة ضد أوكرانيا؛ وأنه يجب عليها معاملته بالمثل وأكثر، بحيث لا تستمر في حمايته فحسب، وإنما تقدم له كل وسائل الرعاية والحماية والدعم والمساعدة والتمويل من أجل استعادة كامل التراب السوري الذي أغرقه بالدم وأتخمه بالجثث البريئة.

لقد قام بواجبه الإمّعي على أكمل وجه: اعترف منذ فترة بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الأوكرانيتين الشعبيتين كدولتين مستقلتين؛ بعدما حفظ الدرس السابق حينما أجبرته موسكو على الاعتراف بجمهورية أبخازيا والتوقيع على اتفاقية صداقة معها وأشياء أخرى روتينية في مايو 2018. كذلك أعلن جاهزيته لإرسال المرتزقة من أجل القتال إلى جانب الجحافل البوتينية في أية لحظة يطلبون منه هذا...

انتصارات مشروطة

لكن كل هذا لم يُجدِ نفعاً، لأن موسكو تدرك بوضوح أن الأسد لا يستطيع الانتصار في حروبه حتى النهاية. ومن هذا المنحى قرر جزار الكرملين تجميد جزار قاسيون منذ فترة طويلة، بعدما أرسل قواته واستخدم سلاحه الجوي لقصف المدن والقرى بشكل مكثف حتى يستطيع تهجير سكانها وفرض صيغ مختلفة من الاستسلام على المدافعين عنها، ومن ثم حصّن الأراضي التي تعيش فيها غالبية علوية ومسيحية على حد سواء، وتوجد القاعدتان العسكريتان الروسيتان. واستعاد مدينة حلب وضواحي دمشق ودرعا وأجزاء من حماة وإدلب وسلّمها إلى الرفيق الأسد... وهكذا قلل بوتين الأضرار المحيقة بذيله وضمن عدم هزه لبعض الوقت! 

لكن، هذا الذيل الذي أدرك بحسه الكلبي أن "الانتصارات" التي تحققت بفضل الروس هي "انتصارات مشروطة" وأن نظامه لا يزال ضعيفاً قبيحاً غير متوازن؛ هو غير موافق على قرار تجميده من قبل موسكو؛ لأن مثل هذا "التجميد" يعني تقليص التمويل والركود وتحول سوريته إلى ما يشبه أبخازيا ثانية. إضافة إلى العيش في انتظار غد مجهول الأجل، والتهديد بظهور احتجاجات وانتفاضات شعبية قد تتحول إلى موجات ثورية جديدة على المدى الطويل، وربما تحدث انقلابات في محيطه الطائفي العسكري أو المدني، أو تغيير في ولاء أقرب الناس إليه، كما حدث مع آل مخلوف مؤخراً. لذلك يحاول الأسد بين الحين والحين التذكير بوجوده الممل والمقرف والمخزي حتى ولو توقف سيل لعابه داخل صقيع صاحب الكرملين؛ فتجده يدفع "حزب الله" لإرسال مسيراته باتجاه الحدود مع إسرائيل؛ أو يجعل حركتي "حماس" و"الجهاد" يطلقون صواريخهم محلية الصنع باتجاه المدن والقرى المحتلة؛ أو يسخّن الوضع هنا وهناك في المناطق الخارجة عن سيطرته، فيقصف المدنيين في حماة وإدلب ويقتل بدم بارد ما تيسّر له من القتلى. لكن السوريين هناك لا يشنون هجوماً كبيراً انتقاماً لضحاياهم، وإنما يكتفون بإرسال بعض القذائف رداً على ذلك.

لا يستطيع الأسد البقاء على قيد الحياة إلا من خلال إطلاق العنان لحرب طويلة الأمد ضد شعبه من خلال زج المزيد والمزيد من الدول والمرتزقة فيها، لأن جيشه ضعيف سخيف مثير للشفقة بأسلحته الخردة، ويقوم فيه الضباط بسرقة الأفراد وتجويعهم ودفعهم للموت الرخيص. لكن هذه الحرب تعتمد على موافقة موسكو التي لا ترغب الآن في شنها، ولا تستطيع من حيث المبدأ مواجهة تركيا أو إسرائيل أو الولايات المتحدة مع حلف شمال الأطلسي حالياً. لا يمكن لموسكو أن تقاتل بدون حلفاء حقيقيين على الأراضي السورية؛ فالحرب هناك تشكل مصدر إزعاج كبير في المدى المنظور، لاسيما مع تأزم الوضع على الجبهات الأوكرانية وعدم سير حملتها العسكرية بالطريقة التي ترغب وتأمل...

اتخذ الكرملين قرار "تجميد" الأسد حتى تحلّ أوقات أفضل بالنسبة له، وعليه تحمّل تذبذبه وممحُونيته، خاصة وأن فرصته للعب بين الفجوات والتناقضات الروسية والإيرانية والتركية غير واردة الآن، لأن الموضوع السوري أصبح في المرتبة الثانية، واللقاءات والحوارات التي تدور فيما بينهم هي مجرد وسيلة لكسب ميزة "تحريك بيادقهم إلى الأمام" قبل العودة إلى الساحة عند الحاجة؛ والتي تضبط إيقاعها واشنطن.

من المعروف أن روسيا قد ذهبت إلى سوريا لمساندة الأسد ومنع عرشه المترنح من السقوط، وليس من أجل إرساء أي استقرار في المنطقة. إضافة إلى أن بوتين كان مقتنعاً بأن جميع خصومه سيستنفدون قواهم وطاقاتهم في النهاية، وأنه بعد إنقاذه للأسد سيستطيع استخدامه كعقرب زمني يلدغ الدهشة الغربية أمام سوء الفهم التام للوعي الإمبراطوري الروسي.

فرصة لتعزيز المكاسب

كانت سوريا مجرد فرصة لتعزيز المكاسب والحصول على الفوائد حتى يتاح المجال لتحقيق مكاسب وفوائد أكبر.. هذه هي الطريقة التي يعمل بها بوتين الإمبريالي المافيوي! 

لم يواجه الغرب المرحلة الاستعمارية البوتينية في سوريا، لذلك سقط في أوكرانيا؛ وها هو يحاول جاهداً عمل شيء ما يوقف فيه توحشه هناك، لكن النتائج تتراوح بين شجاعة الأوكرانيين ورغبة الأوروبيين بعدم خسارة رفاهيتهم وتعجرفهم... 

لقد مهّد بوتين الطريق لنفسه بقوة السلاح في سوريا، وأعاد الجميع مرة واحدة إلى طاولة المفاوضات حول مستقبلها. وبالمثل حاول الغرب مقابلته في منتصف الطريق من أجل إيجاد حل للمشكلة السورية.. ظهرت الحاجة إلى رحيل الأسد واختفائه، لكن ليس مباشرة وإنما عبر نوع من خارطة طريق تستطيع إصلاح الوضع هناك بشكل جاد. لكن لم يحدث ذلك، لأن بوتين قرر استخدام الأسد كورقة مساومة؛ فهو على عكس الأكاذيب الوقحة المعتادة، لا يُخضع سوى 60٪ من أراضي البلاد لسيطرته الأمنية، ونصف هذه المساحة عبارة عن صحراء تصول وتجول فيها قطعان "داعش". كذلك عاش 22 مليون شخص في سوريا قبل الحرب، أما اليوم فقد فرّ نصف هؤلاء إلى الخارج، إضافة إلى أن هناك 5 ملايين في الجزء العابر للفرات، و4 ملايين في إدلب مع النازحين، وحوالي مليون في المنطقة الموجودة تحت وصاية تركيا، وهكذا لدى الأسد ما بين 7 - 8 ملايين شخص، إن لم يكن أقل. وهذا يمثل ثلث مستوى ما قبل الحرب، وهو ليس مخلصاً تماماً بالنسبة له، لاسيما في درعا والسويداء.. كذلك النفط، الذي خصصه كله تقريباً لقصره الجمهوري من قبل ولا يدخل في حسابات الميزانية ولا يباع منه إلا القليل القليل، ظل وراء النهر. 

لا توجد موارد للتعافي، ولا يمكن انتظارها من أية جهة قريبة أو بعيدة، بالرغم من كل اللقاءات التي جرت بين الأسد وممثليه مع الأطراف العربية أو الدولية.

تشكل المافيا الحاكمة في دمشق عبئاً ثقيلاً على روسيا، لاسيما وهي تغيب كل الحلول الممكنة مقابل حلها الأمني والعسكري الإرهابيين؛ ومع ذلك تريد إجبار الروس على القتال في كل سوريا، كما فعلوا ذات مرة في أفغانستان.

هل يعتمد الأسد على نفسه؟

لدى موسكو خططها الخاصة للمستقبل القريب، وهي تعتقد أنه يجب على الأسد الاعتماد على نفسه، وأنه لا يمكن مساعدته بكل وسيلة ممكنة والقتال حتى آخر جندي روسي؛ وإنما من خلال المعدات والمستشارين فقط. لذلك رغم كل ما لديه من أوراق ومرتزقة إلا أنه لا يستطيع فعل شيء عكس إرادة موسكو، فالأمور اليوم تختلف كثيراً عما كانت عليه أيام والده حافظ الذي هُزم في "حرب الأيام الستة"، ومع ذلك يطلق عليها "حرب تشرين التحريرية"؛ وفشل معجزة اندماج الدبابة السوفييتية مع أيديولوجية البعث الاشتراكية... 

كان حافظ الأسد على يقين من أن الله خلق روسيا لخدمة عائلته وتحقيق رغباته بغزو لبنان والأردن وتحرير فلسطين... وهكذا، ربما اعتقد الابن كما اعتقد الوالد؛ لكن حسابه كقاتل محلي مأجور ضعيف وغير فعال لم يتفق مع حساب رئيس عصابة دولي وصاحب خبرة طويلة كبوتين؟! 

 

التعليقات (2)

    Saleh zeno

    ·منذ سنة 8 أشهر
    بقي ان نقول ان اتفاق روسيا والولايات المتحدة على هذا العالم

    Saleh zeno

    ·منذ سنة 8 أشهر
    نعم للاسف هم كلهم يتفقون علينا من تحت الطاولة
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات