من أجل معالجة التصحر السياسي.. من أين نبدأ؟

من أجل معالجة التصحر السياسي.. من أين نبدأ؟

رغم أن السوريين أكثروا من ذكر مصطلح التصحر السياسي، وأكثروا من الحديث عن عقود من الحرمان السياسي، إلا أنه على الصعيد الفردي نادراً ما تجرّأ أحدهم على الاعتراف بأنه من ضمن تلك الشريحة الواسعة التي لا تفقه ألف باء السياسة، وكان من الطبيعي أن يلاحظ الآخرون انخفاض مستوى الوعي السياسي لدى السوريين قبل السوريين أنفسهم، وذلك لتحررهم من ضغوط الذاتوية والتحيزات التي تمنع الإنسان من التفكير بموضوعية. لذلك، ومنذ وقت مبكر بدأت الكثير من المنظمات الدولية تقديم الدعم للبرامج والمبادرات التي تهتم بقضية التوعية السياسية، ولعل الكثير من الناشطين دُعي أو سمِع عن تدريبات وورشات أو ندوات تحت مسميات ترتبط بمفهوم الوعي السياسي. منها ما له علاقة بالدستور، ومنها ما يهتم بأنظمة الحكم، وبعضها اهتم بدور منظمات المجتمع المدني، والبعض الآخر بالحوكمة والانتخابات ومهارات التفاوض والعقد الاجتماعي، وهكذا... 

توظيف المعلومة في تغيير المعتقدات السائدة

على اعتبار أنني أحد الأشخاص الذين حضروا عدداً لا بأس به من هذه الورشات والندوات أستطيع القول إن أفضل ما حصلت عليه هو اكتشاف المعنى الحقيقي لمقولة "دي ماجيو": "في إطار عملية خلق (السيستم) تطور النخب الحاكمة ممارسات تخلق على المدى البعيد بيئة معينة تقيّد من قدرة غيرهم على إحداث تغيير لاحق". فقد لاحظت ورأيت بأمّ عيني عجز المدرب والمتدرب عن توظيف المعلومة في تغيير المعتقدات السائدة، فرغم إطلاق تسمية تدريبات على تلك الأنشطة بدلاً من تسمية محاضرات؛ إلا أن المحتوى واحد، فالعملية برمتها، غالباً، هي تلقين لبعض المعلومات دون التعمق في معانيها والاسترسال إلى ما ينبني عليها لتصبح جزءاً من المنظومة المعرفية والعقدية للمتلقي. ولعل الأسوأ من ذلك، أن المدرب ذاته غالباً ما يُفقد المادة التي يقدمها كل قيمة، سواء عند مجاملة الحضور عند محاولة قولبة المعلومة ضمن القوالب المعتادة، أو عندما تلاحظ أن المعلومة قد استقرت في ذاكرته بعد أن عبرت المصافي الثقافية التي تُخرج المعلومة أو الفكرة بمعنى يختلف عن معناها الحقيقي. والأمثلة عن مفرِّغات المادة من قيمتها كثيرة؛ كأن يقول مدرب للقانون الدولي، أو القانون الدولي الإنساني، على سبيل المثال: إن هذا النوع من القوانين لا يعدو عن كونه حبراً على ورق. وفي أحسن الأحوال؛ يقولها بعض الحضور دون اعتراض من المدرب (المدرس).

ماذا يقول السوريون في السياسة؟

الأسوأ من هذا وذاك، أنك لو طرحت على شريحة من السوريين السؤال التالي ذا الأجوبة الثلاث: ماذا تقول في السياسة؟

- فن المراوغة والكذب، وهي عمل قذر.

- رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية.

- أسمى النشاطات البشرية.

لو طرحت هذا السؤال، ربما تجد الكثير من المدربين والمتدربين معاً يصوتون ضمن الأغلبية الساحقة التي ستختار الإجابة الأولى. وهؤلاء، في معظم الأحيان، يعتبرون أنفسهم أعضاء في منظمات مجتمع مدني لا علاقة لها بالسياسة، وكأن منظمات المجتمع المدني هي منظمات بعيدة عن الشأن السياسي، وهذا ما يثير الاستغراب، فطبيعة عمل المجتمع المدني تتلخص بأنها الرديف الحقيقي للسلطة في أي دولة، ذلك أن أحد أهم أعمال هذه المؤسسات هو الرقابة والتقييم، والمحاسبة والمساءلة، والمتابعة والتطوير، والأهم: المساهمة الفاعلة في تطوير وتنمية المجتمع والحكم الراشد من خلال نشر مفاهيم الحياة المدنية والحقوق والحريات الأساسية. من هنا، اعتقدت أنني وجدت إجابة للسؤال الذي لطالما أرقني: من أين نبدأ؟ 

إذن، فالبداية يجب أن تكون من السعي لتغيير وجهة نظر أغلبية السوريين تجاه السياسة. لذلك، وكمقدمة لهذا الطرح سيعرض هذا المقال فكرتين حول السياسة، ولتكن البداية من تلك المقولة التي قد تكون موضع سخرية من البعض لدى سماعها لأول مرة، وهي: "السياسة أسمى النشاطات البشرية"، ولكن عرض وجهة نظر أصحاب هذه المقولة قد يحدث فارقاً ما؛ فالسياسة نشاط بشري؛ بمعنى أنها نشاط يمتاز به الإنسان عن سائر الكائنات الحية. وعلى اعتبار أن التجارة والصناعة والزراعة والفن والبحث العلمي وغيرها أنشطة إنسانية أيضاً، فإن هذه الأنشطة سيكون إنتاجها في حده الأدنى في المجتمع الذي يفتقر إلى الوظيفة السياسية (بمعنى السلطة السياسية هنا)، وعلى العكس تماماً ستجد هذه الأنشطة بيئة خصبة لنموها وازدهارها بوجود الوظيفة السياسية، والتي تكون بمثابة المظلة التي تزدهر في ظلها الأنشطة الإنسانية الأخرى، فالسياسة تعني تنظيم المجتمع وتحقيق وحدته وتدعيمها، وخلق المؤسسات التي يقوم عليها، وسن القوانين والقواعد الحقوقية التي يرتكز عليها وتطبيقها. هذا باختصار شديد.

التعاطي مع السياسة من مبدأ الضرورة

أما الفكرة الثانية، فهي التعاطي مع السياسة من مبدأ الضرورة، إذ يحصل في كثير من الأحيان أن يقتني الشخص شيئاً لا يحبه، ويقوم بنشاط لا يحبه على اعتبار أنه ضرورة؛ كأن يقول أحدهم: لا أحب الأماكن التي يجتمع فيها الكثير من الناس، لكنني، رغم ذلك، أذهب إلى مناسبات الزفاف أو التعزية، لأنه لا يجوز ألا أشارك الآخرين أفراحهم وأتراحهم. وهكذا، فلو تأمل أحدنا حياته اليومية سيجد أن الحكومة أو السلطة السياسية هي التي تحدد حجم الضريبة التي يتوجب عليه دفعها، وهي التي تحدد له سرعة السيارة المسموح بها على الطريق الفلاني، والحكومة هي التي تجبر من خلال قراراتها النافذة أصحاب مصانع المعلبات على وضع تاريخ الصلاحية، كذلك فيما يختص بالرعاية الصحية وتحديد الشريحة التي تستحق الدعم الحكومي وغير ذلك من مساعدات ودعم لبعض المواد الأساسية وتسعيرتها، وهكذا... على هذا المنوال لو تأملنا ما يحدث حولنا سنجد أن القرارات الحكومية والقوانين الصادرة عنها ترافقنا في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، فللسياسة علاقة بدخل الفرد وبعمله وبصحته وبدراسته وبتحركاته. من هنا، وعلى مبدأ الضرورة، يُعتقد أنه من الضروري أن يكون للمرء علاقة من نوع ما بالشأن السياسي، سواء أحب السياسة أم أبغضها.

لأهمية السياسة في حياة الفرد أُدرجت الحقوق السياسية للإنسان ضمن القائمة الطويلة لحقوق الإنسان التي أقرتها المواثيق والشرائع الدولية؛ بمعنى أنها حقوق للجميع لا يجوز احتكارها من قبل قلة وحرمان الآخرين منها، كما إنه ليس من المنطقي أن يتخلى الإنسان عن أحد أهم حقوقه، وهذا أهم ما في الأمر.

   

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات