عمر عبيد: الشاعر الذي أبدع في هجاء البعث.. وابن السويداء الذي توّج دمشق عروساً

عمر عبيد: الشاعر الذي أبدع في هجاء البعث.. وابن السويداء الذي توّج دمشق عروساً

عمر عبيد شاعر وطبيب....

لست أدري أية مهارة أو موهبة كانت سابقة، لكن عمر نفسه يقول بنفس الوقت الذي كان فيه يمارس شغف الطب، كان الشعر يكمن في خبيئة الروح. عمر ابن الأسرة الممتدة نضالاً ومحتداً وأصلاً وشعراً، فجده لوالده كان شاعراً متميزاً ومناضلاً فارساً، ووالده أكمل الطريق مخلصاً لروحه الإنسانية والوطنية وقال بشجاعة وواجه بجرأة وناضل كما يليق برجل عظيم، ثم كان له ميعاد مع الموت عاجلاً ومبكراً ومفاجئاً. أما عمر، فلقد تشبع بكل عناصر الاختلاف... إرثه ثقيل ويتطلب توازناً ومهارات عقلية وقيمية وهو يشق الطريق نحو مستقبله ...

مشاعر أب

عمر عبيد القارىء النهم لمحيطه وواقعه، والكاتب الذي يعي تجادلات الأجزاء والكل، والذي أدرك أن قيمة الفن برمته مرهونة بمدى تعبيره عن القضايا الإنسانية.

وفي عيد ميلاد وحيدته كان موعده بعد اختمار مع الشعر.... يقول عمر عبيد: 

وقدْ يُهدي إليكَ الحبُّ بنتاً  

فتحرُسُها بهدبِ العينِ خوفا

وتحمِلُها بقلبكَ حينَ تخطو

وتسمعُ صوتَها حرفاً فحرفا

تهفُّ لها الجوارحُ حينَ تمشي

برؤيتها جروحُ القلبِ تَشفى

وأحملُها على الكتفينِ حيناً

أُقبّلُ وجهَها عيناً وأنفا

فإنْ كبرَتْ وما عادتْ ذراعيْ

تُطاوعُني ولا ذا الشيبُ يَخفَى

بسطْتُ لها فراشاً من ضلوعي

وقلبَ أبٍ مَخدّتها /لتَغفى/

فناميْ واحلُميْ يا زَينُ أنتِ

بعيني من فُراتِ الماءِ أصفى

تلك مشاعر لأب يعي مسؤولية الأبوة في واقع بلغت مرارته حداً من القسوة أشبه بالجحيم، ويعلم أن الحب منحة وفضيلة وحاضنة، وعندما يقرر أن تكون وحيدته يجيب على كل الأسئلة المفترضة عن شجاعة الإنجاب أو مغامرة الإنجاب على حافة الهاوية، ابنة واحدة تكفي هو مكتمل بضميره... بإرثه الغني، بأدواته، بمواهبه وبمائه العذب السلسبيل، فحب زين زلال قراح بل هو الفرات وأصفى.

بلاء البعث في الشام والعراق! 

وعندما نسأل عمر عن الحدث السوري، بعمق وأناة ... ومبضع جرّاح متمكن ومحترف يقول: تلك ثورة لها مسارات واتجاهات وتحولات، ثورة أدخلها المستبد نفق القهر والظلم … ثم يضيف قائلا:  "لم أكن يوماً مع العقائد ولن أكون ولن أرهن نفسي لحزب أو تنظيم، أنا متدين بالإنسانية والوطن والقيم، ومعتقد بالحرية طريق وهدف ونهضة....

وفي قصيدته عن البعث يقول :

بحثْتُ عنِ الشبيهِ فلم ألاقِ

                   لبعثِ الشامِ أو بعثِ العراقِ

مَرابِعُ للسوالفِ والحكايا

                         مَراتِعُ للتفاهةِ والنفاقِ 

أنا المرجومُ في عقلي وديني

                       إذا خالفْتُ أقوالَ الرفاقِ

هَربْنا وانكسرنا وانهزمنا

                        ولا زلنا نُجعجِعُ كالنياقِ

نَقُودُ الناسَ من حَتْفٍ لحتفٍ

                      ونهتفُ للهوانِ والارتزاقِ

ويقتلُ بعضُنا بعضاً كأنّا

                 علی سفكِ الدماءِ لَفِي سباقِ

فلاَ نَفْعُ الدوَابِ إذا حَرَثْنا

                     ولا حُسْنُ المُطهَّمةِ العِتاقِ

بلادُ الماءِ والأنهارِ ظمأى

                    ويفضحُ حزنَها دمعُ المآقي

هنا وهناكَ طاغيةٌ وموتٌ

                      وأحلامُ الخلاصِ والانعتاقِ 

دعَوْتُ اللهَ لو يَبلوْ عدوّي

                   ببعثِ الشامِ أو بعثِ العراقِ

محذور شائك هنا، يستعرف الشعر آلية نقدية لفكر وممارسة ومحاكمة على موبقات موثقة، هزائم بالجملة، مؤامرات تغييب الحقائق، فقىء عين التاريخ، ولوي عنق الواقع....سرديات البعث في البلدين الشقيقين، أولاها عمر عبيد موهبته الهجائية اللاذعة، توحش وابتلاء وتغذية مستمرة لمركب التسلط والاستبداد . 

متوفرٌ الجمهور الذي يعرف تلك الحقائق... بل يفيض،  لكن من يجرؤ على قولها نادر وشحيح،  فآلة القمع رهيبة، والناس تشبعت ثقافة الذل والاستكانة والخوف. ولهذا بحث عمر طويلاً عن شبيه لبعثَيْ العراق وسوريا كمنتجين للشر والظلم فلم يجد.. وأعلن منذ مطلع القصيدة فشله في إيجاد أي شبيه!

وجدانيات الشاعر الطبيب

عمر الطبيب يمارس مهنته بكثير من الحب، يعيد الطبيب الناجح إنتاج فكره مسلكاً مشهوداً، ويعود من همه المتناسل في أرض اليباب ليعاقر الشعر حتى إدمان وثمالة لا فكاك منهما ....

ويقول حباً:

سألتُ الليلَ عنها ما أجابا    

                    فهل يا ليلُ خبّأتَ الجوابا

حزينٌ أنتَ مثلي منذُ غابت

                      ومثلُك لم يُعوِّدْنا الغيابا

فأرمي في سوادِكَ بعضَ مابيْ

                       حنيناً أو ملاماً أو عتابا

وأَلقى في سُدولِكَ لي مَلاذاً

                  أبُثُّ الشوقَ نجماً أو شهابا

عميقٌ أنتَ تحتملُ انكساري

                إذا أضنی الهوی قلبي وذابا

أَلا يا ليلُ عفوَكَ إنَّ مثليْ

                   يُطيعُ القلبَ أخطأَ أو أصابا

فإنْ سألوكَ عنّي قُلْ نديمٌ

                 يُشاركني الأغانيَ والشرابا

رَققْتُ لحالهِ لمّا شكاليْ

             عنِ العشقِ الذي أمسى سَرابا

فإنّي كلّما أوصَدْتُ باباً

               على الذكرى أراكَ فتَحْتَ بابا

سأذكرُ حبَّنا ما ظلَّ ليلٌ

           و عطشى الأرضِ تنتظرُ السحابا

تُطيلُ النأيَ عن قلبي وعنّي

                    ورغمَ البُعدِ تزدادُ اقترابا

هو ذا يعود للوجدانيات... منسجماً مع كينونته يعيش صراعات الحب والوله، وقد يكون الشاعر هنا متماهياً مع الخيال ...الخيال الذي طوّعه ليصبح مثل سردية ترفع فائض المعنى الشعري، ويقتسم مع الناس لذة الحب و رحابة الوجدان  وعسيلة الشعر.

السوري عمر يقول:

أخا الآلامِ لا تعتبْ لأنّا

                     نعضُّ علی النواجذِ لا نبوحُ

فبعضُ الناسِ قد يُضنيهِ جرحٌ

                      ولِلسّوريِّ لو تدري جروحُ

هنا وهناكَ تضطرمُ المَنايا

                           وللطغيانِ آجالٌ  تَلُوحُ

فقاتِلُنا  وقاتلُكُمْ  يَهُوذا

                        وقتلانا  وقتلاكُمْ  مسيحُ

وطنيات بألوان دمشقية.. 

وهاهو ذا ابن الشعر والطب.. ابن الوجع والحلم.. ابن الوطنية الصافية والروح النبيلة، عمر العذب النبرات.. المضنى العبرات..  يكتب عن سوريته، فتكتستي جماليات الوطن بألوان الشام الزاهية، وغضب العاصي، وبوح بردى يسقي الشام عشقا، وورد داريا يكسر به القيود والأصفاد 

أنا السوريُّ أضنى الحبُّ قلبي

                   أنا المصلوبُ والحَمَلُ الذَّبِيحُ

كَسَرْتُ بوردِ / دارَيّا / قيودي 

                  أنا العاصي أنا المُهرُ الجَمُوحُ

أنا بردى سقَيتُ الشامَ عشقي

                ولي في غوطتَيكِ هَوىً صريحُ

كَتمْتُ هوَايَ حتى سالَ دمعاً  

                  فَراحَ الماءُ عن عشقي يبوحُ 

***

ملأتُ الكاسَ من عَرَقٍ مُصفّى

                     لعلّي لو سَكِرْتُ سأستريحُ

إذا نسيَ الزمانُ أبي وأمّي

                 فلن تنسى المعارجُ والسفوحُ

فصبراً يا أهالي الشامِ صبراً

                         فللأوطانِ أجسادٌ وروحُ

تظلُّ الشامُ في عينِي عروساً

                        مُقدَّسةً يليقُ بها المديحُ

عشقٌ مؤكدٌ مرة تلو المرة عاشه السوري مع ملامح بلاده، وكل مرة تُروى قصة العشق نراها خارقة للعادة، آسرة ملهمة، نبيلة إلى حد المهابة والجلال.

شرف الحدث السوري العظيم

كلما عشق عمر بلاده أكد إنسانيته، ماء بردى يسقي بحبه الغوطتين،  وورد داريا الذي نثره غياث الروح الخالدة كسر قيده. عمر يرى أن تحدي الخوف يكفي أن يكون شرف الحدث السوري العظيم...

شعر فيه من اللذة عيار مسكر، وفيه من الإبداع قسط وفير، وفيه عودة إلى فعل الطقوس نفسها بقصد الشرعنة والدخول في سجل القيمة والقمة والمجد والجمال، عمر هنا يظهر عميقاً ببساطته ومسلكه التقليدي إلى حد، ويغاير معايير الغرابة والتقعر اللغوي، ولايبالي إذا كان مرة شاعراً حداثياً أو تقليدياً أو...أو... فهو ليس مستعرضاً لمهارات قد تكون ابتذلت. هنا يظهر عمر مكتفياً بنبالة المقام والهدف، ولما كانت هي الحياة تمور مرةً اكتواء بحرب ومرةً برداً وسلاماً....

بحب يقول عمر :

تَكلَّمْ  تَكلَّمْ   لَعلّي  أراكْ  

             فأيُّ  صديق ٍ لِقلبيْ  سِواكْ

فإنْ كانَ وجهُكَ عنّيْ بعيداً

           سَلِ القلبَ لو لحظةً هل سَلاكْ

أَتسألُ  عنّي ْ وكُلُّكَ  مِنّيْ

                وتُنكرُ  أنّي ْ قتيلُ  هواكْ

شُهوديْ عيونٌ وقلبٌ وذِكری

            فَليْ فيكَ هذا وَليْ فيكَ ذاكْ

فإنْ بُحْتُ أخشی المَلامةَ لكنْ

             إذا ما تَكتَّمْتُ أخشی الهلاكْ

وأُطلِقُ آهاتِ قلبيَ شِعراً

               و وصفاً لِما اقتَرفَتْهُ يداكْ

يقولونَ كيفَ تَعلَّقْتَ فيهِ؟

                 وماذا رأيتَ بهِ فسَباكْ؟

فَلوموا كَما ترغبونَ فإنّيْ

                أراكَ علی كُلِّ حالٍ مَلاكْ

فَحَسْبُكَ أنَّ العصافيرَ تشدو

                 بِقلبِ الحبيبِ إذا ما رآكْ

وحَسْبُكَ أنّيْ أُخاصمُ نَفْسيْ

            وعقليْ وقلبيْ وأرجو رِضاكْ

تكلّمْ  تَكلّمْ  إذا شئتَ وارحمْ

             وإنْ ما تَكَلّمْتَ روحيْ فِداكْ

خليط الخيال والحقائق

في الكتابة خليط من الحقيقة والخيال، والتجارب والقراءات والسماعيات، كلها تشكّل مادة المبدع الأولية، وتأتي الفطرة مع إحساس عبقري ليصوغها شعراً أو نثراً.... عمر محبٌ والحب عنده حالة خاصة جداً وأثيرة ولها سرّ الروح، ويعتقد عمر أن في السحيق دائماً حكيات لن تُروى. 

عمر يعيش حباً مع زوجته وطفلته وقططه، وله رأي أن في الكتابة فصاماً كاملاً وتفارقاً عن الواقع، والحب هنا خيال وحلم، وربما فيه بعض الحقيقة المسكوت عنها لأن فهم هذا التفارق صعب جداً. 

الطبيب الإنسان عمر، وفي العموم، عليه ألّا يكون طرفاً في أي صراع ... والمأساة السورية أكبر من أي موقف حزبي. عمر يقطع تماماً مع المستبد من كل الأطراف ويتنقد تلونات التمرد المعتمة لأنه يريد أن تبقى ثورة الشعب حدثاً حيّاً وبالغ الروعة... يقول عمر: 

أَتظنُّ شيخيَ لفّةً وعمامةً؟

                   أو ناعقاً فوقَ المنابرِ يردحُ

لم يُغرِني يوماً صليلُ سيوفِكُم

             فالسيفُ في كفِّ الغبيِّ سيجرحُ

يا جاهلاً نَسبي، إماميْ شاعرٌ

              والحبُّ دينيَ والهوی والمسرحُ

ورفيقُ دربيَ في الحياةِ قصيدةٌ

                      أشدو بها مُتعلّقاً أتمرجحُ

إن كنتُ أعزلَ ، فالغناءُ كفايتي 

                   وكمنجةٌ، والعودُ لو أتسلّحُ

نحنُ الذينَ إذا البيادرُ أُحرِقَتْ

                   تبقى بيادرُنا تضيءُ وتطرحُ

نحنُ الذينَ إذا البنادقُ أُشرِعَتْ

                      رحنا نغنّي للحياةِ ونفرحُ

العارُ عنديَ أن يُقالَ مُدجَّجٌ

                  بغبائهِ أو أن يُقالَ ( مُسلَّحُ )

كلُّ الفصائلِ والبنادقِ واللِحى

                    ليست تساوي وردةً تتفتَّحُ

مدجّجٌ عمر بالحب والجمال والقيم، الشعب السوري له مع قصة الخلق سرّ وصولة وجولة علمته أن يكون مرناً مثل شمس تطلع كل نهار، وأن وردة تتفتّح بكل بهائها وأثمانها التي بذلتها الطبيعة لتكون بهذا الكمال هي سلاحُ الجمال وسلام الخلق وهداية لا حدود لها، فالأمر لا يحتمل مقارنة، صليل السيوف والسلاح لا يشبه هسهسة الشعر ولا عذب الموسيقى. القصة السورية قصة أبجدية وقصة النور الذي أهدي للعالم أكثر من مرة. 

سوريا بيادر القمح التي تعود لتثمر من جديد، كلما أُحرقت أضاءت وطرحت ذهب الحنطة، وكلما أشهر باغٍ بندقية سنغني معاً للحياة والقيامة السورية، عارٌ أن نتسمّر وعارٌ أن نفقد اليقظة التي تشرنقت إلى حين قيامة. هو ذا عمر عبيد، الطبيب المتميز المناضل الإنسان، والذي كسر قيده ورد "داريا" الخالد.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات