لا يزال حجرُ باب مضافة أبي الفضل المزخرف بنقوش رومانية ملقى بإهمال متعمّد على حدود الفسحة التي كانت تحمل يوماً ما أركان إحدى أقدم وأهم مضافات السويداء، الحجرُ يبدو كشظية حيّة طائشة هربت من معركة قريبة، فيما نقلت الآليات الثقيلة كامل هيكل المضافة في عطلة عيد الأضحى وما تلاها من أيام قليلة إلى جهةٍ مجهولة، ليصير المكان مساحةً خاوية من المعنى، تتمطّى بضجرٍ أمام بصر المارة.
وبحسب مصادر مطلعة لـ"أورينت" فإن صدى الهدم جعل آل الأطرش، وورثة مضافتهم الشرعيين يفكرون مليّاً بهدم المضافة، وهي آخر المضافات الدرزية داخل السوق التجاري إذا ما تلقّوا عرضاً مالياً مُجزياً على غرار العرض الذي أودى بحياة مضافة أبي الفضل خلال شهر تموز/ يوليو الحالي.
مضافات الدروز فضاء الاجتماعي والسياسي
ليست مضافتا آل الأطرش وآل أبي الفضل اللتان يعود تاريخهما إلى عشرينات القرن الماضي، المضافتين الوحيدتين داخل الفضاء الاجتماعي للدروز، فهناك مضافة آل عسلي داخل المدينة، ومضافة آل عز الدين في بلدة الثعلة، والتي لجأ إليها إبراهيم هنانو أيام النضال ضد الفرنسيين، وبقي ضيفاً عليها أسبوعين من الزمن بحسب ما قاله أحد المؤرّخين الدروز المعاصرين لـ "أورينت".
كما هناك العديدُ من مضافات العائلات التي كانت إقطاعيّةً فيما مضى، ولا تزال تحافظ على عمارتها البازلتية القديمة، ومزاجها التأثيثي من مفروشات ومطرّزات الصوف، وقطع السلاح القديمة، وتنهض بين الأجزاء القديمة في العديد من البلدات الدرزية. وكانت المضافة الدرزية حتى أواخر خمسينات القرن الفائت تستحوذ على الجزء الأهم من تشكيل الفضاء الاجتماعي، إذ إنها مكانُ إقامة الضيف واستقباله ومنامته، ومكان إقامة الفرح والعزاء واستقبال التهنئة، وعقد المصالحات وبناء التحالفات الاجتماعية والسياسية أو هدمها، وكانت مقصداً للتسامر والحديث وصياغة الشأن العام، ولا سيما مضافات وجهاء العائلات. لكن وبمجيء حزب البعث واستيلائه على السلطة في سوريا، ثم ومع تشييد الدولة الأمنية في عهدي حافظ وابنه تقلّص دور المضافة الدرزية داخل الفضاء الاجتماعي إلى حدود الطقس الاجتماعي الضيّق والمحدود، ورمت عنها الدور السياسي الذي كانت تشتغل به فيما مضى، والذي كان حاضراً بقوة خلال ما عُرف بأحداث الشعبيين والطرشان وهي اشتباكات مسلحة بدأت عام 1947 وغلّفت بالسواد الحياة في ست قرى درزية، وكان طرفاها الأساسيان هما الزعامةَ التقليدية المتمثلة بإقطاعيات آل الأطرش، والفلاحين المرابعين عندهم، والذين دعمهم سياسياً الرئيس الراحل شكري القوتلي، حيث مارست المضافات المتقابلة للفريقين المتقاتلين حينذاك أدواراً متعددة حيث كانت أدوات تعبئة وحشد رأي عام وإدارة للخصومة والتقاتل، ومن ثم لعبت دور الوسيط في إنتاج المصالحات، والخروج من حرب الأشقاء بأقل الخسائر الممكنة.
مجيء المضافات البديلة
تدريجياً أخذ البيت الحديث يتخلّى في تشييده عن تضمين المضافة داخل هندسة بنائه، وحلّ الصالون المعاصر مكانها حتى في بيوت الريف الدرزي النائي، لكن الكثير من الدروز لا يزالون حريصين على وجودها في تصاميم منازلهم وإن بمساحات مكانيّة، وأدوار اجتماعية أقل فاعلية وغواية من السابق بكثير، فالمضافة الزرقاء التي صمّمها تطبيق "فيس بوك" ومضافات المجموعات الخضراء داخل تطبيق "واتس أب" حاكت نموذج المضافة البازلتية بصيغتها الحميمة العالقة داخل الوعي الجمعي للدروز، وقدمت بديلاً افتراضياً لتعويض الفاقد من التواصل الاجتماعي الحيّ، فصارت المضافات الإلكترونية بلونيها الأزرق والأخضر تجربةً عصرية تستدرج الاجتماع بما فيه الاجتماع السياسي الذي كان غائباً خلال نصف القرن الماضي إلى لونيها الدامغين، وهي في آن أيضاً أخذت تستبدل مذاق حبَّ القهوة المرّة والهال، بمذاق النكات اللاذعة، وتستبدل مناسف الأعراس الفلوكلورية، بصور ارتياد المسابح الموسمية خلال عطلة نهاية الأسبوع، وتستبدل قصص ونوادر صيد الحجل ودجاج الماء، بالتحسّر على اختفاء الغطاء الأخضر من محيط سد الروم نتيجة الاحتطاب الجائر الذي دفعت إليه سياسة بشار الأسد المعادية لحاجات الناس الأساسية في السنوات الماضية.
غابت المضافة الدرزية بصيغتها الطقسيّة الجامعة، ونزعتها الذكورية داخل الفعل الاجتماعي، وانسحبت بتلك المكونات الرصينة من الفضاء العام، لتحلَّ مكانها نسخٌ ملونة من مضافات إلكترونية مجرّدة من قوّة التمثيل الاجتماعي وجديّته، فلم تنجح تلك المضافات الزرقاء والخضراء حتى الآن بتكوين فعل سياسي جاد لدى الدروز، ترفده بأدوات عمل لإبقائه حيّاً، بحيث يكون قادراً على إخراج الناس من دائرة صمتهم المُهين، لكنها بقيت مضافاتٍ ملوّنة، من لونين فقط.
التعليقات (0)