نحن وفوبيا التقسيم (1 من 2)

نحن وفوبيا التقسيم (1 من 2)

لا أعتقد أنه لا يوجد فينا من لم يسمع عن مؤامرة "سايكس - بيكو" التي قسمت الوطن العربي إلى الدول العربية المعروفة في الوقت الراهن، كما أنه لا يوجد فينا من لم يسمع عبارة "تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ" آلاف المرات في إشارة إلى إستراتيجية اتفقت عليها دول الغرب التي لن يهنأ لها بال حتى تنفذها، خلقت هذه البروباغندا المتعمدة من قبل القومجيين العرب ما يمكن أن نسميه "فوبيا التقسيم"، ولعلمهم بوجود هذا النوع من الخوف لدى الشعوب العربية تقوم الأنظمة العربية باستحضار خرائط التقسيم المتخيلة عند كل حراك ثوري للإيحاء بأن هذا الحراك ليس أكثر من جزء من هذه المخططات الاستعمارية. 

ماذا لو جربنا ولو لمرة واحدة أن نفكر من خارج الصندوق؟ هل ستبقى تلك العبارات تحمل نفس الدلالات؟ سيعرض هذا المقال حزمة من المعلومات المتفرقة؛ ومن ثم على القارئ الكريم أن يجرب القراءة لتلك العبارات بالطريقة التي يفضلها.

1- تمتاز قارة أوروبا عن غيرها من قارات العالم القديم بأنها تتمتع بوحدة أنثروبولوجية، فالغالبية العظمى من سكانها تنتمي إلى الجنس القوقازي، وتبلغ مساحة أوروبا بدون روسيا حوالي 6.5 مليون كيلومتر فقط. ورغم ذلك؛ فيها 43 وحدة سياسية (دولة)، ويصل العدد إلى 51 حسب بعض التصنيفات، وقد اتسمت خريطة أوروبا السياسية بعدم الثبات منذ القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر، ومؤخرا اعترفت روسيا باستقلال دولتين جديدتين: "دونيتسك" و "لوغانسك".

2- تتكون أمريكا الجنوبية من 12 دولة ذات سيادة، البرازيل هي أكبر دولة في القارة من حيث المساحة وعدد سكانها 204 ملايين نسمة، أي ما يعادل 50 في المئة من سكان أمريكا الجنوبية، ومساحتها تغطي 8.5 مليون كم مربع (أكبر من قارة أوروبا)، تستخدم البرازيل اللغة البرتغالية كلغة رسمية، بينما باقي الدول تتكلم الإسبانية (هناك بعض الاستثناءات الصغيرة)، وتشكل المسيحية ديانة ما يقارب (93%) من السكان (باستثناء البرازيل، باقي الدول لديها لغة واحدة ودين واحد).

3- في آسيا، كانت الهند أشهر المستعمرات البريطانية، ورغم انفصال الباكستان وبنغلاديش عنها؛ تركتها بريطانيا دولة تبلغ مساحـتها (3.287.263) كلم مربع، وهي بذلك سابع أكبر دولة في العالم. كذلك تبلغُ مساحة دولة الصين ما يُقارب 9.6 مليون كيلومتر مربع ولم يقم أحد بتقسيمها، بل إن النظرة التقليدية للتاريخ الصيني تشير إلى الوحدة والتفكك السياسي بشكل متبادل نتيجة الصراع الطبيعي على السلطة، وتذكر الروايات التاريخية الموثقة أن آخر عملية توحيد لأجزاء الصين كانت بمساعدة خارجية (الاتحاد السوفييتي).

4- عدد دول قارة إفريقيا (54) دولة، وعن الحدود السياسية لهذه الدول يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

- معظم الحدود السياسية لإفريقيا تم ترسيمها في الفترة من 1884 – 1919، ومعظم هذه الحدود صناعية، ولا تمثل أقساما طبيعية أو بشرية، فهي معظمها حدود هندسية وُضعت من قبل المستعمر دون أن يدرس خصائص الأرض أو توزيع السكان.

- كان تخطيط الحدود اصطناعياً، مما أثر سلباً على توزيع القوميات عند تطبيقه وترجمته إلى الواقع، فالشعب الصومالي كان ضحية لهذا التقسيم وأصبح مشتتاً بين عدة دول في جيبوتي والصومال وإثيوبيا وشمال كينيا، كما قُسمت كثير من القبائل والجماعات بين المستعمرات الأوروبية، وخير مثال لذلك التفتت هو شعب "الإيفي" في غرب إفريقيا الذي يتوزع بين توغو وغانا.

بناء على ما سبق يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

- إن قارة أوروبا (منبع الاستعمار والتقسيم) كانت ومازالت أكثر قارات العالم عرضة لتفتت وحداتها السياسية، وفي هذا دليل على أن تفتت الدول وانقساماتها هو حالة طبيعية ويأتي نتيجة لعدة عوامل منها الداخلي ومنها الخارجي، وأن هذه الحالة تشمل الجميع دون استثناء.

- إن التقسيم العشوائي عام وشامل، وهو غير مخصص للدول العربية فقط.

- هناك شبهٌ شديد بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية، فهذه الدول تتكلم لغة واحدة وتدين بديانة واحدة، بالإضافة إلى ذلك، كانت الأرجنتين إحدى البدائل لتكون وطناً لليهود.

- إلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الأوضاع الدولية على هذا المنوال، عندما تصعد إمبراطورية جديدة تتوسع على حساب ممتلكات الإمبراطورية أو الإمبراطوريات الآخذة بالأفول، لكن الذي حصل في مرحلة الاستعمار الأخيرة أن القوى الصاعدة كانت متعددة، وهو ما اضطر هذه الدول لتقاسم مناطق النفوذ تجنباً للصدام فيما بينها، فعلى سبيل المثال: لو أن بريطانيا كانت وحدها في الساحة لاستعمرت كل الدول العربية كما فعلت بالهند، لكن التنافس الاستعماري هو الذي اضطرها لتقاسم بعض المناطق مع بعض الدول الاستعمارية كما حدث في منطقة الشرق الأوسط (سايكس - بيكو). 

- تعدّ الصين صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم، وهي مرشحة لأن تكون الأولى في المدى المنظور، وتحتل الهند المرتبة الرابعة في ترتيب أقوى اقتصادات العالم، وتأتي البرازيل في المرتبة التاسعة، فهل ارتكبت الدول الاستعمارية خطأ كبيراً عندما تركت هذه الدول بهذا الحجم ولم تفتتها، أم إن تعمد التفتيت من أجل الإضعاف لم يكن يخطر ببال أحد في ذلك الوقت؛ لأن الدول الاستعمارية لم تكن تفكر بالانسحاب من مستعمراتها بالأصل، فمغادرة المستعمرات جاءت نتيجة لتطورات تاريخية لم يكن أحد يتوقعها.

كل ما سبق لا يعني بأي شكل من الأشكال أن اتفاقية "سايكس – بيكو" كانت خيراً على المنطقة، بل على العكس من ذلك، فمن أطلق على الخطوط التي رسمها "سايكس" و"بيكو" تسمية "خطوط الدم" لم يكن مخطئاً، فهذا التقسيم العشوائي لمناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا كان ومازال وسيبقى السبب الرئيسي في معظم الصراعات والحروب والنزاعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط التي تعدّ من أقل مناطق العالم استقراراً، إلا أن فكرة الاستهداف المخصص وفكرة المخططات المسبقة (المؤامرة) تبدو بعيدة كل البعد عن الحقيقة... وللحديث بقية.

 

 

التعليقات (1)

    يوسف اليوسف

    ·منذ سنة 8 أشهر
    بس نخلص من نظرية المؤامرة بنصير بشر
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات