لم يعد الشاذون جنسياً يوارون سوآتهم ويخجلون من شذوذهم وانحراف أفكارهم وسلوكهم ، بل صاروا أكثر صلفا وفجورا في الجهر بشذوذهم، يدعمهم في وقاحتهم تلك جائحة عالمية تسعّر هذا الشذوذ وتسعى لتطبيعنا معها وفرض قبولنا وتقبلنا لها بقوة النبذ أحيانا وبسلطان القانون أحيانا أخرى.
لن أناقش وأخوض جدالا نظريا عقيما مع داعمي الشذوذ الجنسي والمطالبين بشرعنته في القوانين بحجة أن هؤلاء فئة موجودة بإرادتنا أو رغما عنّا ويتعين مراعاة ( حقوقهم ) في هذا السياق (!) وبزعم أن المسألة ليست انحرافا سلوكيا مرتبطا بنفسية مأزومة ، وإنما بتكوين جيني – خلقي (!) لا ذنب لهم فيه وهو محض هراء لم يثبت علميا قط، وأنا أتحدى أصحاب هذا الزعم أن يبرزوا لنا دراسة علمية من جهات علمية مرموقة ومستقلة تثبت وجود جينات خاصة هي المسؤولة عن تحديد الميول الجنسي للإنسان .. ولكني أحيل هؤلاء إلى )) ورقة بحثية نشرتها أستاذة علم الاجتماع " آميبا تلر " راجعت فيها كل الدراسات الاستقصائية منذ 1988 التي تناولت نسب الأشخاص الذين كان لديهم شريك جنسي مثلي في الولايات المتحدة، وتبين للباحثة أن النسب كانت تتضاعف منذ 1991م فصاعدًا ما يعني أن العوامل الإعلامية والاجتماعية والسياسية لها دور كبير في تحديد - أو لنقل في توجيه - الميول الجنسي، وإلا لو كانت المثلية الجنسية جينية فقط لظلّت النسب ثابتة)) (1) .
ويدعم ذلك ما جاء أيضا في دراسة للأخوين " وايتهيد ": (( أمّا العوامل الاجتماعية التي تؤثر في الاتجاه إلى المثلية الجنسية فمتعدّدة ومتنوّعة، تطرح إحدى الدراسات أن غياب الأب أو الأم يجعل نسبة الاتجاه إلى المثلية أكثر بنسبة 20%، في دراسة أخرى اعترف 84% من المثليين الذكور أن والدهم كان غير مكترث وغير مبالٍ بهم في صغرهم مقابل 10% فقط للغيريين (أي الذين يمارسون الجنس مع الجنس المغاير) أمّا عن الصحبة في الصغر، فقد أظهرت الدراسات أن الشواذ جنسيا كان لديهم في الغالب أصدقاء قليلون من نفس جنسهم، وكان يتم رفضهم من المجموعات الكبيرة من نفس جنسهم، ونتيجة لخلل الأسرة أو لنبذ البيئة الاجتماعية لهم، تظهر حالة اللاتحديد للهوية الجنسية لدى بعض الأطفال، الأمر الذي يساهم بنسبة 15% في اتجاههم إلى المثلية الجنسية، خصوصا إذا صاحب هذا الاضطراب اعتداءٌ جنسي على الأطفال في الصغر)) . (2)
وأختم هذا السياق بشهادة (( عالِم الوراثة الأميركي الشهير والمؤيد للمثلية الجنسية "دين هامر" الذي أجرى بحثاً يزعم فيه الربط بين علم الجينات والمثلية الجنسية. تلقَّت الصحف الأميركية الخبر بسرعة كبيرة تحت عنوان صريح: (باحث يكتشف جين الشذوذ الجنسي) ورغم جاذبية هذا العنوان ودلالته الصريحة بالنسبة للقارئ العادي، إلّا أن دين هامر نفسه نفى هذا الأمر، وصرّح قائلًا بعد انتشار الخبر: "لم نكتشف الجين المسؤول عن التوجّه الجنسي، بل نعتقد أنه ليس موجودا أصلا" )) فهامر نفسه -وهو المنافح بشدّة عن (جينية) الشذوذ الجنسي- يعتقد بأن أي محاولة لإثبات وجود جين واحد يحكم المثلية الجنسية هي محاولة عبثية. (3)
إذا .. العوامل الجينية المزعومة لا تحدد الميول الجنسية بل هناك عوامل نفسية وتربوية ومجتمعية هي التي تؤثر في خلق أرجحية أو عدم أرجحية حصول تحول بالميول الجنسي للأفراد، ويدرك الداعمون لما يسمى ( حقوق المثليين ) هذه الحقيقة لذلك تراهم يبذلون كل الجهود لخلق البيئات المناسبة لحصول مثل هذا التحول سواء عبر الإعلام أو الترويج المجتمعي أو توفير البيئة القانونية ليست فقط الداعمة للشذوذ الجنسي وإنما أيضا الزاجرة للرافضين لها (!!!) .
لم تعد ( قضية ) الشذوذ الجنسي الذي يروق لداعميه ومروجيه تسميته بالمثلية الجنسية، والتي طفت على سطح المستنقع البشري الآسن خلال العقود الثلاثة الأخيرة تكتفي بكونها مجموعة من الشاذين المحتجين على تهميشهم ونبذهم ضمن مجتمعاتهم، بل تطور الأمر لتجعل من نفسها حركة ذات بعد عالمي تسعى لفرض الاعتراف بوجودها وفرض قبولها وعدم نبذها، بما يفضي لما يشبه إعادة صياغة المجتمعات ومنظوماتها القيمية وفق رؤيتها ومعاييرها، بل وشرعنة هذا الوجود والتحولات القيمية التي تسعى إليها عبر الأدوات القانونية التي لا تكتفي بتوفير حماية لها، وإنما بإكراه الآخر الرافض لها على قبولها والتعايش معها (!) متخذة من الساسة والأحزاب والتشريعات والمؤسسات الإعلامية أدوات لترهيب الأفراد أو المجتمعات الرافضة، وكلنا يذكر المثال الأقرب زمنيا المتعلق بمساءلة لاعب كرة القدم السنغالي ( إدريسا غانا غاي ) الذي لم يدلِ بأي تصريح مناهض للمثلية، وإنما امتنع فقط عن المشاركة في إحدى المباريات التي يرتدي فيها الفريق قميصا رياضيا بألوان علم المثليين(!) .
المسألة إذا لم تعد مسألة احتجاجية على التهميش والازدراء الذي يقابل به هؤلاء الشاذون حتى في الكثير من المجتمعات التي فرضت عليها قوانين تشرعن هذا الشذوذ وتحميه، بل تحولت إلى ما يشبه إيديولوجيا فاشية لا تسعى فقط لتفكيك الروابط الأسرية والقيم الدينية فحسب، وإنما لتهشيم المجتمعات واستباحتها وإخضاعها تحت يافطات الحريات وحقوق الإنسان (!) .
ويبقى اللافت والمضحك في آن أن تلك الفئات المتاجرة بقيم الحرية وحقوق الإنسان لم تدعم قط حق الإنسان العربي أو المسلم في التعبير أو التغيير الديمقراطي، ولم تحمِ له حقه في ممارستها ولم تجرّم من لا يؤمن بها أو يحارب ممارستها من الأفراد أو الدول، بل كانت دائما ما تدعم الطغاة والمجرمين وتتعامل معهم حماية لمصالحها العليا ... بينما توفر كل الدعم المالي والقانوني والسياسي والإعلامي لما تسميه ( حقوق المثليين ) وتجرّم من يرفضها أو يعبر عن استهجانه وازدرائه لها(!).
من غير المفيد بطبيعة الحال كنس البيت ووضع القمامة تحت السجاد للزعم أن البيت صار نظيفاً، فمواجهة الأمور خير من مواراتها خصوصا أن مجتمعاتنا صارت مجتمعات هشّة ليس بفعل ما واجهته من أحداث وكوارث خلال العقد الأخير فحسب، بل أيضا بفعل الاستبداد المديد بمختلف تجلياته السياسية والدينية والفكرية وحتى الاقتصادية، فالاستبداد الطويل يحيون المجتمعات ويحولها لقطعان عاجزة عن ممارسة ضروب التفكير فضلا عن إنتاج المعرفة.
مجتمعاتنا اليوم لا تعاني فقط من سقوط منظوماتها السياسية والاقتصادية، وإنما من سقوط أوطانها وتشظي مكوناتها وتفكك الكثير من بناها الأسرية وبداية تحلل الكثير من قيمها وهو ما يجعل منها تربة صالحة لاستنبات كل ما هو متاح من نبت شيطاني وفي المقدمة منها ما يرّوج له عن ( حقوق المثليين ) وهو وضع لا يصح فيه الانكفاء إلى الخطاب الديني الماضوي ومحاولة التحصّن فيه لمواجهة الجائحة، خصوصا أن هذا الخطاب مشوش ومشوب بالكثير من الجهل والتجهيل فضلا عن إفلاسه في توفير استجابات وإجابات لأسئلة حاضر المجتمعات ومستقبلها(!) من قبيل من نحن وأين نحن من هذا العالم ومستقبله وما هو دورنا فيه وما هي الشروط اللازم توفرها لنعيش كبشر؟ وما هو موقف الدين من الحريات وحقوق الإنسان وماهية الدولة التي نريد والتي تحفظ لنا حقوقنا وتحمي لنا حقنا بالاعتقاد وبالتدين أو عدمه، وممارسة التنوع .. كل ذلك يحتاج إلى إجابات لا يمكن أن يوفرها فقها قام على الإكراه ونبذ الآخر وتكفيره!! .
نحن لا نخجل أن نكون من دعاة حقوق الإنسان ورافضين لبعض ما يسوّق من ( حقوق ) مزعومة تحت تلك اليافطة البرّاقة.. ولا نخجل أيضا أن نقول إن قيمنا الأخلاقية وديننا الذي أكرمنا به الله والذي نؤمن بقيمه ونمارس طقوسه، يرفض هذا الشذوذ ويرفض أن يشرعنه، ونحن ممتثلون لموجبات تلك القيم وهذا الدين.. لكننا في الوقت نفسه لا نقبل دينا موازيا مشوشا صنعه لنا شيوخ ودرّاس وفقهاء، يمتهن العقل وينتهك النص ويناقض في خلاصاته ما جاء في رسالة الله إلينا من إعلاء لشأن الإنسان وحريته، وحري بنا إن كنا حريصين على أن ننجي أنفسنا وشبابنا ومجتمعاتنا من لوثة الشذوذ والفجور أن نقدم لهم أجوبة حقيقية عن أسئلتهم الملحة بشأن الدين المبستر الذي يرونه خاليا من القيم، فيرون رجل دين منافقا ومصليا يكفر بالله الذي كان يعلن خضوعه له في صلاته قبل قليل ومتعبد يكذب وآخر يشهد الزور ويخوض في ذمم الناس وأعراضهم مع الخائضين (!) .
فقط عندما ننجح في الإعلاء من شأن القيم الإنسانية التي كرستها وحضّت عليها جميع الشرائع السماوية باعتبارها شأنا إنسانيا مشتركا يحكم العلاقة بين البشر وتتقدم في الأولوية حتى على الطقوس التعبدية باعتبارها شأنا فرديا خاصا بين الإنسان والخالق، عندها نكون قد قطعنا الشوط نحو توفير الحصانة الحقيقية لمجتمعاتنا من جائحة الشذوذ الجنسي والقيمي معا.
________________________________
المصادر:
(2) المصدر نفسه
(3) المصدر نفسه
التعليقات (6)