من مفرزة الأمن إلى شعبة الحزب: عماد كركص متفرّداً عن مُجايليه في (جزء من النص مفقود)

من مفرزة الأمن إلى شعبة الحزب: عماد كركص متفرّداً عن مُجايليه في (جزء من النص مفقود)

بهدوء يتسلّل القاص السوري (عماد كركص) إلى المشهد الأدبي معلناً اقتحامه لأبواب القصة القصيرة الساخرة بكثير من التفرد والاختلاف عبر مجموعته القصصية الأولى (جزء من النص مفقود) الصادرة عن (دار موزاييك للدراسات والنشر) في إسطنبول عام 2020.

لعل (عماد كركص) اختار الطريق الأكثر وعورة في الأدب، طريق الكتابة الساخرة التي ترصد اللحظة الحزينة أو الموقف الباكي، وتحوله إلى إبداعية ساخرة ومريرة في الوقت ذاته، واللافت في (جزء من النص مفقود) أنه يمسك فيه الكاتب بخيط رفيع يربط كل القصص بزمان ومكان وشخصيات تتكرر، وكأنه يكتب سيرة ذاتية لقرية (الضحيكة) والتي هي بالنتيجة تشبه بتناقضاتها وأحداثها وقهرها ووجعها كل بقعة من الأرض السورية، كل ذلك وظّفه “عماد كركص” بتكنيك كتابي عالٍ لنقد الواقع والمجتمع والآخر، فهو لم يُغفل أدقّ التفاصيل التي عاش على وقعها المواطن السوري في ظل الفساد والمحسوبية وتغوّل الأجهزة الأمنية والحزبية في يوميات المواطن السوري.

امتلاك ناصية الحبكة القصصية

14 قصة في 172 صفحة اجتهد الكاتب فيها برسم ملامح المكان (قرية الضحيكة) مسرح أحداث المجموعة، لدرجة أن القارىء بعد قراءته عدة صفحات يَعتقدُ أنه بات يعرف ملامح المكان.. شوارع الضحيكة والمقهى والملعب الترابي ومفرزة الأمن وشعبة الحزب، وتصبح الشخصيات جزءاً لا يتجزأ من الحكايات المتتابعة بكثير من الألم والسخرية في آن معاً، وعندما تطوي الصفحة الأخيرة من المجموعة القصصية كقارىء تتساءل: هل ما قرأتُه كان مجموعة قصص أم رواية واقعية مريرة بكل معنى الكلمة؟؟!!.

ومن هنا تستمد المجموعة القصصية تميّزها وتفرّدها لأن (عماد كركص) لا يأبه للاستطراد والسرد المديد أحياناً فهو يمتلك ناصية الحبكة القصصية التي يربط خيوطها بسلاسة فلا يشعر القارىء بالتشتت بل بمزيد من التحريض والشغف لمتابعة الحكاية وما ستؤول إليه. والأهم أن الكاتب تجاوز فخّ الاستسهال الذي وقع فيه الكثيرون من كتاب الأدب الساخر، ألا وهو التعامل مع القصة الساخرة كرسم كاريكاتوري أو مجرد صياغة لنكتة أو طرفة ضاحكة ليس إلا، وفي هذا مقتل الإبداع، لذا تبرز أهمية الفكرة العميقة وبساطة الطرح والسخرية المريرة غالباً في صياغتها.

شخصياً أحترم جداً الروح الساخرة والكتابة الساخرة وهي فن صعب جداً بعكس ما يعتقد الكثيرون، فهي فن يتعاطى مع العقل مباشرة: صناعة المفارقة، كسر المنطق، والخروج عن المألوف. وليست كما التراجيديا أو صناعة الدراما، القائمة على استحلاب الدموع والعزف على الأوتار الحزينة ومخاطبة العواطف. فالنكتة - في أحد تعريفاتها- صدمة عقلية. ربما أكثر ما أبعدنا عن الفن الساخر، هو نظرتنا المسبقة عنه. القصة الساخرة هي ليست تلك التي تجعلك تقهقه بصوت عال، بل تلك التي تجعلك تبتسم بدهشة وفي أحيان كثيرة تبتسم بألم.  

حياكة النص بهدوء

عماد كركص حائك هادىء لا يستعجل طرح الفكرة ولا حرقها في سطور بل يعتمد على تسلسل هادىء للأحداث والفكرة حتى يقبض على حبكة مُتقَنة للقصة عندها يطلق العنان لسخريته اللاذعة لتقول إن طرافة الحكاية لا تخفي مرارتها، وفي الحالتين نجحت (جزء من النص مفقود) في أن تبصم بقوة وتكون باكورة لأعمال (عماد كركص) الذي نتمنى أن نقرأ له المزيد بأسلوبه المختلف والمتفرد عن مُجايليه. لأن القارىء عندما يصل لنهاية المجموعة القصصية ويقرأ قصة (جزء من النص مفقود) يشعر أن هذا الجزء المفقود هو من الحكاية السورية. يبدو (عماد كركص) مطالَباً برصد وكتابة ما تبقّى من النص السوري المفقود في مجموعة قصصية جديدة تكمل تفاصيل الحكاية السورية الموغلة في الوجع والمرارة.

التعليقات (2)

    السيف الدمشقي

    ·منذ سنة 9 أشهر
    مجموعة قصصية جميلة وسبق ان استمتعت بالمادة القيمة اللي كتبها عنها هنا الآستاذ محمد منصور ودفعتني للبحث عنها واقتنائها

    مروان الجزراوي

    ·منذ سنة 9 أشهر
    أسلوب قصصي عظيم و إدارة مميزة للحبكة و تصويب للهدف و المغزى بشكل ذكي و احترافي لا مثيل له
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات