أطفال سورية: أيّ الحكايات ترويها الجدّاتُ السوريات لأحفادهن اليوم؟

أطفال سورية: أيّ الحكايات ترويها الجدّاتُ السوريات لأحفادهن اليوم؟

ليس عبثاً تعاقُب الفصول،.. وتشابه الأجيال،.. كأننا نحن البشر صورة عن الطبيعة ذاتها،.. صورة عن الشجرة كمثال،.. حبةً نبدأ رحلة العمر،.. ثم نشقُّ التربة الرحم، لنصير طفولة البرعم،.. ثم نزهر ونعطي أثمارنا،.. وبعدها ننحني ونشيخ،.. وقد نكون جديرين بالخلود كشجرة حوّلوا جذوعها اليابسة إلى أطر ومقاعد وأدوات تنفع الناس،.. وقد لا نكون جديرين به،.. فنشع للحظات في موقدة الشتاء،.. وبعدها ندخل غيبوبة الرماد.

كثيراً ما أتأمل المرآة، فأجد في صفائها ملامح شجرة،.. ألمس في صفائها انحناءً في بعض الأحيان،.. وأكتشف في أحيان أخرى أنها تحاول أن تتبرعم،.. وأن تنبعث من جديد في تربة جديدة لتشقّ الصمت باخضرار أكيد،.. قد لا أكون من نصيب الموقدة،..

الشجرة التي تتبرعمُ كتابةً، وتحوّل أوراقها إلى حروفٍ، تستحق الامتداد إلى زمنٍ آخر،.. لهذا وظّفت شجرة روحي في أبجدية التواصل.

الأمومة كذلك شجرة لا تموت،.. لأنها تطرح أعماراً أخرى في أبنائها،.. هكذا وجدت أمي، ووجدتُ جدتي، وهكذا أحسست نفسي كأبٍ لحظة حملت مولودي الأول بين ذراعي،.. وما زلت أترقب أن أحمل ابنه يوماً لأتيقن من الخلود.

لكن كم الأطفال اليوم في سورية فقدوا أمهاتهم وأباءهم؟.. وكم من الأطفال فقدوا الطفولة ذاتها، ووجدوا أنفسهم يواجهون البحر والتهجير واليتم والجوع؟..

كم من الأطفال السوريين اليوم خارج المدرسة، وخارج العائلة ؟.. وكم من الأطفال يعيشون في مخيمات اللجوء العربية والغربية، يتعايشون مع البرد والمطر، والحرائق، ومع نظرة عنصرية لهم من كثير من البلدان التي احتضنت لجوءهم مقابل أثمان بلا حصر!.

وكم من الأطفال فقدوا حتى هذه العذابات يوم قضوا تحت القصف والموت الجماعي، والخطف والتنكيل والتجارة بأعضائهم؟.

إذ لا طفولة في سورية منذ 15 عاماً، ولن تكون لأجيال قادمة!.

والحكاية الوحيدة التي باتوا يعرفونها فعلاً أنهم جيل منذور للتيه والضياع.

أي الحكايات تخبر الجدّات السوريات أطفال سورية اليوم؟

كثيراً ما كانت جدتي تجمعنا حول موقدة الشتاء،.. وتبدأ بصوتها الأثيري تنسج لنا حكاياها لستُ أنسى أبداً حكاية ليلى والذئب،.. حكاية المصباح وعلاء الدين،.. حكاية المغارة وعلي بابا،.. حكاية البساط الذي يطير،.. لكن هل تصلح هذه الحكايات لحفيدي الذي قد يجيء، هل تصلح لأطفال سورية اليوم، الأطفال الذين عرفوا رغماً عن أنوفهم البحر والهجرة والموت، واستنشقوا بدلاً من رائحة الحقول روائح الكيماوي القاتلة.

أسلافنا كانوا يحلمون بما حققناه نحن، كانوا يريدون الطيران فاخترعوا البساط الطائر، والحصان المجنّح،.. كانوا يحلمون بالمغارة التي تنفتح على الكنوز بكلمة واحدة،.. ونحن اخترعنا الريموت كونترول الذي يفتح كل شيء بكبسة زر،.. كانوا دائماً يؤكدون على انتصار الخير،.. فليلى انتصرت على الذئب،.. والزير سالم قتل أعداءه،.. نحن لم ننتصر بعد حتى على خوفنا،.. فما الذي سأحضّر لحفيدي من حكايات؟!

حتى القمر صعدنا إليه،.. ووصلنا المجرات البعيدة،.. صرنا نرى العالم كله ونحن جالسون في بيوتنا،.. فما الذي يمكن اختراعه لإغناء مخيّلة الصغيرات والصغار؟.

سأحدّثه عن عالم بلا حروب،.. وبلا مغارات، وبلا صيادين،.. سأقص عليه قصة الطفلة التي صحت يوماً على عصفور ينقر نافذتها، وكيف خرجت معه إلى الحياة،.. تبحث عن محتاج لتساعده فلم تجد أحداً،. تبحث عن كفٍّ وخزتها شوكة،.. فلم تجدْ شوكة واحدة،.. وكيف حين عبرت الغابة، رافقتها الأشجار إلى بيت جدتها،.. ولم ترَ ذئباً واحداً،.. ولا حتى غراباً يشق الصمت بنعيب.

لكن هل سيصدّق الصغير ما سأقول وحين يكبر قليلاً سيكشف أني كنت ألفّق له عالماً يشبه الأكاذيب؟.

سأغيّر الحكاية إذاً،.. سأخبره عن طفلةٍ ظلّت تجلس أمام النافذة لشهور دون أن تلمح عصفوراً واحداً،.. وحين عبرت الطريق فاجأتها السيارات بالضجيج، وحين وصلت أطراف الغابة هاجمتها الذئاب،.. ولم تصلْ لغاية اللحظة إلى بيت جدتها.

سأخيفه لو تحدثت هكذا،.. إذاً عليّ أن أؤلف قصة أخرى،.. سأخبره عن طفلةٍ كانت تلعب في حديقة القصر،.. وكانت الأزهار تخاصرها في رقصها اليومي،.. وألف عصفور قال لها: صباح الخير.

وكبرتْ بسرعة،.. وخرجت مع أبنائها في رحلة إلى القمر،.. وهنالك اكتشفت أن الأرض تشبه قالب الحلوى، فأطفأت مع أطفالها شموع الميلاد،.. لن يصدق حفيدي كلمة مما سأقول،..لن يصدق وهو يسمع أو يتابع ويرى هول المجازر في حلب، وحي التضامن، والرقة وغيرها من مدن وقرى سورية.

إذاً،.. لا حلّ أمامي،.. إلاّ أن أكون كجدتي تماماً،.. سأرى في وجه حفيدي وجهي المدهوش وأنا أستمع إلى حكاياتها،.. لا بأس أن أعيد على مسامعه حكاية ليلى والذئب،.. وحكاية البساط الطائر وعلي بابا والزير.

الواضح أن الأطفال دائماً متشابهون،.. والجدات يتشابهن كذلك،.. وزيادة في مصداقيتي طرقت باب جارتي لأسألها عن الحكايات التي تخبرها لأحفادها،.. فضحكت وقالت: لا أعرف إلاّ حكاية ليلى والذئب،.. لكنني أحياناً أقول لهم إن الذئب لا يزال على قيد الحياة،.. وإن ليلى كبرت وتزوجت وأوصت أولادها أن يتحوّلوا إلى صيادين. وإن البساط الطائر.. فقد قدرته السحرية لكثرة استخدامه فاستبدلوه ببساط حديدي له جناحان ومحركات،.. وأسموه الطائرة،.. أنا لا أخبر أحفادي إلاّ ما سمعته من جدتي،.. لكني دائماً أحاول أن أستفيد من واقع الحال،.. فبالأمس حدثتهم عن الزير سالم وبطولاته فضحكوا وقالوا: لقد شاهدنا مسلسلاً عنه في التلفزيون ولم يكن كما تقولين عنه،.. يا صديقي،. هذا الجيل ليس كجيلنا،.. هو جيل قادر حقاً على صناعة حكاياه الخاصة،.. لماذا لا نجلس أنا وأنتَ أمام أحفادنا ونتعلم من تجاربهم الأقاصيص والعبر؟.

وهكذا فعلتُ،.. البارحة فقط أخبرني حفيدي أن علي بابا رفع صوته قليلاً حين وقف أمام باب المغارة،.. فتسبب بزلزال كبير ضرب بقاع الأرض،.. وأن علاء الدين وقع من على البساط فلم تستقبله مستشفيات المدينة لأنه لا يحمل النقود،.. وأن ليلى لم ترَ جدتها أبداً،.. ولم ترَ الذئب،.. لأنها لم تجدْ غابة واحدة تدخلها في يومنا هذا بعد أن ازداد عدد الكسارات، والحرائق والصواريخ.

البارحة أخبرني أنه شاهد على التلفزيون رجالاً كثيرين بلحًى طويلة يسحلون امرأة في الشارع، ورأى جنوداً يطلقون النار على رجالٍ آمنين.

سامح الله جدتي،.. عوّدتنا على البقاء أمام باب المغارة،.. ونسينا كلمة السر.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات