(رجلٌ من غرفةٍ واحدة) لعلي حافظ: أصابع تبحث عن الثورة.. وشاعر يسكن في القبو!

(رجلٌ من غرفةٍ واحدة) لعلي حافظ: أصابع تبحث عن الثورة.. وشاعر يسكن في القبو!

تعتبر القصّة القصيرة جنساً أدبيّاً فريداً، يجعل القارئ يغوص في التفاصيل الصغيرة ليرى حجم أبعادها، مع الكثير من الدقّة الّتي لا تحتاجها غالبيّة الأجناس الأدبيّة الأُخرى، ومن خلالها يفكّكُ القاصُّ خيوط المجتمع والنفس البشريّة، ويُظهر مدى انفعالاتها المتمثّلة بالحدث المجرّد. إنّ القصّة القصيرة لا تشبه سوى ذاتها، ذلك الزمن الّذي يمتدّ رغم قصره، مع حيّزٍ مكانيٍّ يراه القارئ من الأعلى فيتفاعل معه وفيه، وبذلك يكون على القاصِّ أن يعيد بناء الحدث الواقعيِّ ليخلقهُ متخيّلاً دون الوقوع في شركِ السذاجةِ أو الابتعاد عن الواقع، كلّ هذا بعد أن تتخلّقَ القصّة في مخيّلة الكاتب تخلّقاً معقّداً…

ومؤخّراً  صدرت مجموعة قصصيّة للكاتب والمترجم السوريّ الدكتور "علي حافظ" حملت عنوان "رجل من غرفةٍ واحدة" عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول.. وقد أتت هذه المجموعة القصصيّة كمخالفةٍ للزمن بطريقةٍ أو بأُخرى، لاسيما أنّ قصصها كُتِبت في العقد الأوّل من الألفيّة هذه بين (2000 - 2010) وهو زمن سابقٌ على اندلاع الثورة السورية، وهذا ما يميّزها، حيث غالبيّة الأعمال الأدبية الّتي تصدر الآن مواكبة للثورة والحرب، يعود بنا الكاتبُ سنواتٍ طويلة ليسردَ لنا قصصاً لم تشهد ما أحدثه الزمن بعدها في الأدب وكافّة جوانب الحياة الأُخر.

العتبات

يشكّلُ العنوان الرئيسُ للمجموعة القصصيّةِ حاملاً مهمّاً للمتن، فـ(رجل من غرفةٍ واحدة)، عنوانٌ محيّرٌ بحرفِ الجرّ "من" ،فمن المعتاد أن يستخدم بدلاً منه حرف "في" ليكون أكثر منطقيّةً، لكنّه أعطى بعداً نفسيّاً يهيّئ لما بعده بكسرهِ المعتاد، هل الرجل عبارةٌ عن عالمٍ واحدٍ؟ أم هل في كلِّ رجلٍ غرفةٌ تسكُنهُ حتّى وإن تعدّدت الغُرف؟ وبهذا يثير الكاتب تساؤلاً مهمّاً عبر العتبةِ الكبرى، وهذا ما يجعل العمل الأدبي أدبيّاً، أن يثير تساؤلاً في عقل المتلقّي، ولأنّ العنوان هو نصٌّ موازٍ لمتن القصّة فهو مرتكزٌ أساسيٌ يمكن لنا أن ننطلق منه في قراءة هذه المجموعة، بما يحمله من دلالاتٍ إيحائيّة تتسمُ بالغرابة.

ثمّ إنّ القارئ ليشعر بوجود كلمة محذوفة بعد كلمة رجل، ربّما هي "واحدٌ" ليكون للرجل وللغرفةِ ذات الصفة وهي الوحدة المطلقة، حيث يرسلنا التنكير للاسمين للتساؤل عن طبيعة السكون القابع في الاسم النكرة…

أمّا العناوين الجانبيّة في داخل المجموعةِ فهي لا تقلُّ مدلوليّةً عن العنوان الرئيس، فلكلّ منها انزياحاته وإيحاءاته، على الرغم من وضوح المفردات المكوّنة لها، فعلى سبيل المثال (غرابٌ بقبّعة) وفيها يبدأ الكاتب قصّته بكلمة "عائدٌ" ثمّ (بالميرا تنتصر على روما)، وآخر (مات القبو)، وسادة بلا رأس، رجلُ الشطرنج…" وهنا فما إن يُقرأ العنوان حتّى تنفتح آفاق التأويلات وتتشظّى معانٍ متعدّدةٌ، تساهم جميعها في إكمال الصورةِ الحكائيّة، ولأنّه من المحال أن يتساوى العنوان وقصّته في الجودة والقوّة فقد نجدُ أنّه من الممكن أن يعادلَ أحدهما الآخرُ في مجموعةٍ مليئةٍ بالغرفِ الوحيدة والرجال الوحيدين، حتّى الإهداء فقد أرسله الكاتب للياسمينة ووالدته ووالده وجدّهِ كلٌّ على حدة، ليثبّتَ حضورَ الوحدةِ المتناثرة بين العناوين والقصص.

السرد واللغة والراوي

طغى صوتٌ واحدٌ يتجلّى في ضمير الغائب، ليكونَ راوياً عليماً في كثير من الأحيان وراوياً انتقائيّاً في أحايينَ أُخرى، أمّا السارد الثالث وهو الحياديُّ فقد تلاشى في زحمةِ العواطف الّتي تتشظّى في القصص لتصيب الشخصيّة الرئيسةَ الخفيّة وهي الرواي، وبذلك فقد كان الراوي متفاعلاً ومؤثّراً ومتأثراً في ذات الزمن، رغم مشقّة إمساك خيوط الشخوص في القصّة والتحكّم فيها، فيشعر القارئ وهو يقرأ إحدى القصص كقصّة "رجل الشطرنج" أنّ البطل وهو السبعينيُّ المتعبُ المتلاشي ببطء يسيرُ إلى الحائط قربَ إشارة المرور في النهاية، ليكون نعوةً ملصوقة على الجدار، رغم أنه لم ينتبه لها أحد، كما وصف الكاتب، هنا نجد أنّ الكاتب يحاول أن يجعله قويّاً حين استخدم على لسانه كلمة "كش مات" وقد كررها مراراً، تلك الكلمة الّتي توحي بالفوز والنصر، لم تنقذ الرجل السبعينيّ كلّ انتصاراته على رقعة الشطرنج، وهو الّذي كان يحارب في كل الجبهات حينما قال "أصبح الرجل قطعة شطرنج تتحرّك في كلّ الجهات… كان جنديّاً، فيلاً، حصاناً، وقلعة" 

على الرغم من أنّه استخدم صوت الراوي المتكلّم الحاضر في بعض القصص، وقد كان صوتاً عالياً ومنسجماً مع روح الحكاية.

لقد نجح الكاتب في استخدام لغةٍ أدبيّة خالصة، لغة سهلة ولكنّها ممتلئة، أعطته القدرة في كثير من المواقف لكي يتعامل بحساسيّةٍ شديدةٍ جدّاً، أراد بذلك للغة أن تلعب دور التورية والرمز، فتوحي بكثير من المعاني.

مبالغات ممزوجة بنبرة موسيقية

من اللافت وجود لغةٍ شعريّةٍ إضافة إلى المبالغات الممتزجة بنبرة موسيقيّة… فيصف لنا عبرها مشاعر وأحاسيس وعوالم داخليّةٍ لرجل سبعيني لامرأة، لشابّ عائد إلى الوطن، للوحةِ فنيّة معلّقة على جدار ما، لحجر شطرنج أو لقاسيون…. مستدعياً بعض الرموز من عمق التاريخِ لتعطي مدلولات جديدة وأنيقة، ففي قصّة (غراب بقبّعة) نجد أن اللغة انقسمت إلى قسمين فيها، للبداية لغةٌ جميلة تشبه كلّ البدايات، حينما نظرَ الكاتب بعين العائد إلى وطنه، ليجعله الشوق يرى كلّ شيء باهراً وزاهراً، بعينين رومنسيّتين، فمن بردى إلى قاسيون الشامخ إلى زنوبيا الّتي انتصرت على روما، كلّ تلك الكلمات المفعمة بالألق

"وقد قالها الكاتب: يا لها من جملةٍ مجنّحة" 

كلّ هذا ولّد في النهاية وبعد ذروة الحدث في القصّة لغةً مناقضة يملؤها الانكسار والخيبة، وهنا انقشعت هالةُ السُكرِ عن عينيه ليرى المدينة ككهف، وقاسيون غادرته الأضواء تاركة الرمل والأشباح تنزل منه لتخنق بردى، والعتمة الأبديّة، حتّى أفكاره اتسمت بالفسفوريّة ومافي هذا اللون من إزعاج ونشاز صاخب… 

وهكذا فقد استخدم الكاتب لغتين متناقضتين، كلّ منهما لها خصائصها، وكأنه أراد أن يُريَ القارئ مدى اتساع المسافة بين المتخيّلِ والواقعي، أو كسر الجدار الفاصل بين هذين العالمين.

وبإلقاء نظرةٍ كليّة نرى أنّ الكاتب قد اعتمد في سرده على التنويع والتجريب الحذر، كالمزج بين أكثر من جنس أدبي داخل القصّة، حيث إنه مزج بين تكنيك القصّة وتكنيك فن العرض "المسرح" وضمّن القصّة الواحدةَ مشهداً مسرحيّاً، وقد تبدّى هذا جليّاً في قصّة (والدي الذي أعلن الحرب) على سبيل المثال لا الحصر.

واعتمد أيضاً على إدخال المونولوج في كثير من اللحظات على لسان الراوي حينما يتماهى مع الشخوص، فيكون هذا الصوت القادم من أعماق القصّة مؤثّراً " سأقاتل معك في زمن اللاقتال والهلام، ونعيد رسم الوطن بكلمة دعاء" في قصّة (باكورة جدّي). كلُّ ذلك مع حوار مرهف في بعض اللحظات ومليء بالألم أيضاً، حوارٌ بجمل قصيرة داخل نسيج السرد.

الحدث

إنّ المادّة القصصيّة لها أهميّة في الجذب والتنفير وهي الحامل الرئيس الّذي يُبنى عليه العمل الأدبي، ولذلك فإن المادة القصصيّة المستهلكة هي ما يضعف أيّ عمل أدبي، ولا قيمة للزمان والمكان والشخوص والحوار والسرد والوصف إن لم تكن المادّة جديدةً طازجةً فريدةً من نوعها، حتى وإن أبدع فيما تبقى من عناصر.

أمّا قصص (رجلٌ من غرفةٍ واحدة) فهي مواد كثيرةٌ وجديدةٌ لا بكنهها بل بكيفيّة تقديمها، وهنا تبرز قدرةُ الكاتب على إعادة خلق الحدث بطريقة إبداعيّة جديدة، فقصة "مات القبو" والتي تتحدّث عن شاعرٍ يسكن في قبو، شاعر حالم ومفعم بالخيال، وكيف انتهت قصّته في جملة "لدفن رجل القبو" فهي من الأحداث الّتي تدلّ على إعادة الخلق الأدبي.

ثم في قصّة (عابرة اللون الأسود) فهي مادة طازجةٌ بما فيها من انتظارٍ وامرأةٍ استوقفتها لوحةٌ فنيّة، وراوٍ استوقفته امرأة…. وهذا يختلف عن المكوّن لقصّةٍ فيها بعد تاريخيٌّ "باكورةُ جدّي". والكثير منها تلك الّتي تناقش قضايا نفسيّة وروحيّة، وعلاقة الإنسان بذاته أو بالآخر، سواء كان مجرّداً أو معنويّاً.

وبهذا فإن القصص في هذه المجموعة وإن كانت متنوعة المدلولات والأفكار، متباينةَ الاتّجاهات والقضايا، فإنّ ما يجمعها هو "التعب" بكلّ معانيه وانعكاساته.

لقد بدا واضحاً في هذا العمل الأدبي معنى أن يكون الكاتبُ مثقّفاً، وأن يمنح للجزئيّات بعداً وحجماً ومساحةً، ورغم أنّها تعود بكلّيّتها إلى زمن ما قبل الثورة، إلّا أننا نلمس في أعماقها أصابعَ تبحثُ عن الثورةِ وجذورها في الإنسان الّذي أنهكته الحياة بحدّ ذاتها آنذاك، تلك الثورة الّتي تولَدُ من التعب، لينبعث الإنسان من رماده مرّةً أُخرى، وكما أنّ الموت كان نهاية الكثير من شخوص هذه المجموعة، فإنه دلالةٌ على أنّه "الموت" ربّما يكون ثورةً على الحياة بطريقة أو بأُخرى، وخلاصاً أبديّاً من الهشاشة والاغتراب واليأس.

 

التعليقات (3)

    yakan

    ·منذ سنتين 4 أشهر
    حلوة

    yakan

    ·منذ سنتين 4 أشهر
    حلوة

    علي حافظ

    ·منذ سنتين 4 أشهر
    كل الشكر والمودة أيها النبيل
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات