هي ضربة قاتلة ومُميتة أصابت وزارة الدفاع بالحكومة المؤقتة وجيشها الوطني, فالاقتتالات البينية المتتالية التي قسّمت المُقسّم وفرّقت المشرذم عادت لتضرب بخلافاتها الأخيرة بين الجبهة الشامية مدعومةً من جيش الإسلام وبين القاطع الشرقي لأحرار الشام (الفرقة 32) المدعوم من هيئة تحرير الشام. صراعات لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. ضربة هزّت ما تبقى من هيبة للجيش الوطني شبه المعدومة أساساً, وعادت لترسخ واقعاً مأساوياً أصاب صميم المؤسسسة العسكرية التي كانت الطموحات منها أن تكون خير خلف لأسوأ سلف (جيش النظام), لكن الصمت الذي مارسته وزارة الدفاع عن كل الانتهاكات والتجاوزات والزعرنات التي مارسها معظم قادتها, شكلت تراكمات وأكواماً من العقبات التي باتت مع استمرارها عصيّة على الحل, وبات تجاوزها ضرورة ملحّة لا تحتمل التأجيل, وبقاء الحال على ما هو عليه لم يعُد مقبولاً, فقد ضاق صدر الجميع بما فيهم الحليف, وأسلوب حل النزاعات والخلافات المتتالية على الطريقة العشائرية عبر عزائم تنتهي بـ"تبويس شوارب" وكروش ممتئلة لم تعُد مُجدية, فالخلافات التي عادة ما ترحل نتيجة تلك المصالحات الشكلية تصبح قنابل موقوتة وألغاماً قابلة للانفجار بأي لحظة, عدا عن خطأ فني كبير نجم عن إدخال المجلس الإسلامي السوري ودائرة الإفتاء للعب دور الحكم في تشابكات تلك الصراعات وهو غير المؤهّل لذلك ولا تليق بمكانته, وإيكالهم بالأمر تجعل من الجيش الوطني مؤسسة دينية لا عسكرية, لأن الحل الصحيح والمؤسساتي يكون عن طريق لجان عسكرية مهنية, متخصصة, هي الأجدر والأقدر على معرفة طرق المعالجة العسكرية الصحيحة التي ترتكز على معرفة جذرية بأسّ الصراع, وضرورة امتلاك هذه اللجان مقدّرات القوة والأدوات الخشنة لفرض حلولها عند الحاجة.
بعيداً عن المحق والمبطل فيما حصل مؤخراً من صراع أزهق أرواحاً مدنية وعسكرية, وظهرت فيها أسلحة ثقيلة لم نرَها على جبهات قتال ميليشيات أسد في السنوات الأخيرة, وصُرفت فيها مقدّرات عسكرية كانت جبهات التحرير أجدر بصرفها, لكن ما حصل ووفق تسلسل الأحداث أعطى صورة واضحة عن غياب وترهل مؤسسات المعارضة (ائتلاف, حكومة مؤقتة, وزارة دفاع), وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنها مؤسسات هُلامية, مفككة, ضعيفة, لا تملك القدرة على المبادرة أو التحرك, بل إن الشلل قد ضرب مجمل مفاصلها وجعلها طريحة مكاتبها, جاعلة من بياناتها الخشبية الصمّاء جهادها الأعظم.
ببعض النقاشات مع أصحاب القرار حول جدوى مسار أستانا قيل حينها إن غاية المسار وأمام ضعف القوى المساندة للثورة السورية هو المحافظة على ما تبقى والحصول على ما أمكن.
وبالنقاش مع بعض قادة الفصائل حول فتح معارك على جبهات النظام, وأن تحرير سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون وأريافها في محافظة إدلب, سيكون بمثابة عودة وملاذ وإعادة إسكان لما لا يقل عن مليون ونصف نازح ومهجّر سوري, وهم بطبيعة الحال أبناء المنطقة, وسيكفّ ألسنة من يتّهم الجيش الوطني والحليف التركي بالتغيير الديموغرافي وغيره, أيضاً كان الرد أن المنطقة والجبهات تخضعان لخرائط تفاهمات وتوافقات ثنائية بين أنقرة وموسكو تمنع أي عمل عسكري على تلك الجبهات (وإن كان نظام أسد وحلفاؤه لم يلتزموا يوماً بتلك التفاهمات ولم يطبّقوا وقف إطلاق النار المعلن يوماً واحداً).
أمام استعصاء الموقف السياسي الذي يعتبر طريق أستانا مساراً وحيداً لما يخصّ مستقبل المنطقة في جبهات القتال بين المحرر ومناطق نظام أسد, وأمام الموقف العسكري المتماهي تماماً مع الجهود السياسية في أستانا, تبرز قضية غاية بالأهمية وهي الحفاظ على ماتبقّى, والالتفات لاحتياجات ومتطلبات الحاضنة الشعبية صاحبة الثورة, والتي دفعت من دمائها وأرواح فلذات أكبادها, وتنازلت عن أرزاقها ثمن ما نحن فيه اليوم.
بمعنى، أن مهمة الجيش الوطني اليوم يجب أن تتركز على مهمتين أساسيتين:
أولاً: مهمة الحفاظ على الجبهات وحمايتها وحراستها والرد على كل من يعرّض حياة أهالي المحرر للخطر.
ثانياً: الحفاظ على مصالح المدنيين في مناطق شمال غرب سوريا, وتأمين عيشهم الكريم عبر تأمين مصالحهم وأرزاقهم وقوتهم وأمان سكنهم وعائلاتهم.
ممنوع أن نكرر سيناريو نظام أسد, عندما توقفت المعارك وتوقفت أعمال السرقة والتعفيش واصطياد أموال السوريين على الحواجز, بدأت عمليات داخل مناطق سيطرة النظام من سرقات وعمليات اختطاف وطلب فديات وعصابات نصب ودفع “خوات”, وإضافة للضائقة الاقتصادية التي تعيشها مناطق سيطرة ميليشيات أسد, باتت مناطق النظام عبارة عن مستنقعات من الفساد والقتل, لا سلطة تحكم ولا سلطة قادرة على فرض القانون بأبسط مقوماته, وأصبحوا يعيشون بسياسة الغابة, فبات الكبير يأكل الصغير, والمدعوم يسحق المواطن الفقير, وبدأت حملة جديدة للهجرة للخارج ليس نصرة للثورة بل لتأمين ملاذ آمن وعيش مستقر ولو بحدوده الدنيا.
ما يجب قوله: أمام استعصاء فتح الجبهات مع نظام أسد, يجب ألا نعيد تجربة أسد, ويجب أن نقدم نموذجاً مختلفاً كلياً عن نموذج أسد, لعدة أسباب منها:
_ الثورات لا تنتصر بقوتها وقدراتها العسكرية, الثورات تنتصر بعدالة قضيتها وأخلاق مُريديها.
_ الشعب السوري خرج على ديكتاتورية سياسية متسلّطة, ومنظومات جيش وقضاء وأمن فاسدة, وعلينا تقديم البديل, من جيش وطني مهمته حماية المدنيين لا قتلهم, ومن قضاء يعيد الحقوق لأصحابها لا يسرقها, ومن أمن غايته السهر على راحة المواطنين لا تهديد حياتهم.
_ الحليف له قدرة على تحمل التجاوزات وتمرير بعض الأخطاء, لكن في اللحظة التي يشعر فيها أنكم أصبحتم عبئاً عليه سيركلكم بقدميه, ويترككم لمصيركم الأسود, فلا تراهنوا كثيراً على صمت الحليف لأن لديه قدرة محدودة على تحمّلكم.
_النقطة الأخيرة, أن كل ما يحصل اليوم وما حصل سابقاً على الجغرافيا السورية وبكل مناطق تسيطر عليها سلطات الأمر الواقع, هي مراقبة, وهناك أعين تُحصي حتى أنفاسكم, وما تعجز عنه يد العدالة اليوم, سينتظركم بأول محطة عدالة دولية, فجرائم الشعوب وجرائم الإنسانية لا تموت بالتقادم.
يتبقى سؤال: ما الحل؟؟
مرة أخرى وعاشرة وألف نقول: لا مناص من إعادة هيكلة كل المشهد السياسي والعسكري والحكومي, والبحث عن رجال أوفياء لقضية شعبهم وثورته, والإبقاء على ما هو عليه اليوم هي خدمة جليلة تُقدَّم للأسد لاستمراره ودوام حكمه وتسلّطه على سوريا.
إمكانيات الثورة السورية كبيرة, ولديها المقدرات والكوادر الكافية والوافية لإنتاج قيادة جديدة قادرة على توجيه شراع السفينة نحو بر الأمان, وإكراماً لدماء الشهداء وتضحيات هذا الشعب العظيم على من تصدّر المشهد أن يبادر لحلول سريعة تنقذ ما تبقى وتُعيد للحاضنة كرامتها وأمانها وقوت عيالها ... أو أن يرحل ... كفى.
التعليقات (3)