فوضى خلاقة أم أكذوبة خلاقة؟!

فوضى خلاقة أم أكذوبة خلاقة؟!

في حادثة طريفة؛ أنكر بطل رواية أمام إحدى معجباته ما نسب إليه من خوارق في الرواية، لكن المعجبة التي أصيبت بالدهشة قالت: ولكن يا سيدي ما سألتك عنه مذكور في الرواية؟! فقال الرجل الوقور: يا بنيتي لو أن الكتاب صوروا ما يحدث في الواقع كما هو لما وجدوا من يقرأ لهم.

لانتشار الكذب علاقة بالطبيعة البشرية

رغم أن القصص والحكايات والأقاويل التي تبدو خارقة للطبيعة يجب أن تكون مدعاة للشك، إلا أنها تلقى قبولاً وترحيباً من العامة، وهو ما يجعل المرء يعتقد أن الطبيعة الإنسانية بحد ذاتها، هي إحدى الأسباب الرئيسية التي تدفع البعض لاختلاق الأكاذيب، أو لإضافة الكثير من المساحيق والرتوش إلى الحقيقة لتحولها إلى كذبة، والأمر على ما يبدو مرتبط بشغف الإنسان بالإثارة والتشويق والطرافة. فالحقائق نادراً ما تتصف بهذه الصفات. لذلك هي مملة وغير مرغوب بها، بل ربما تثير الحنق والامتعاض عند الكثيرين في حال تعارضت مع ما يعتقدون كما هو حال هذا المقال. 

لاحظ الكثيرون أن للأكاذيب حظاً بالانتشار والتمدد أكثر من الحقائق بأضعاف مضاعفة، وقد عبر "مارك توين" عن هذه الظاهرة بقوله: "يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها". لذلك، فالقصص الطريفة والمعتقدات الغريبة تجد من يصدقها ويؤمن بها لدى كل المجتمعات من دون استثناء. الفارق الوحيد بين المجتمعات في مجال تقبل الكذب يكمن في نسبة هؤلاء، وفي نوعية وطبيعة الطبقة أو الشريحة التي ينتمون إليها.

متى يصبح انتشار الأكاذيب خطراً؟

يقول "لينين": "الكذبة التي يتم تكرارها غالباً ما تصبح حقيقة". ويقول "غوستاف لوبون": " الأحداث الأكثر شبهة هي تلك التي لاحظها أكبر عدد من الأشخاص". وبتعبير آخر يمكن القول: إن إجماع عدد كبير من الأشخاص على مقولة ما لا يوجد لها مصدر علمي موثق هي، في الغالب الأعم، كذبة تم تكرارها فاعتقد الناس أنها حقيقة.

يبقى انتشار بعض الأقاويل المغلوطة والقصص المختلقة والحقائق المشوهة لدى بعض شرائح المجتمع ظاهرة طبيعية، لكن الأمر يصبح أكثر تعقيداً عندما تتبنى النخب الفكرية والثقافية تلك الأقاويل وتتعامل معها على أنها حقائق، فتبني عليها وتحلل وتستنتج، وبذلك تضفي عليها الصفة العلمية على اعتبار أنها صدرت عن باحث أو مفكر أو مثقف. ويزداد التعقيد حدة ليصل إلى مستوى الكارثة العلمية عندما تكون تلك الأكاذيب التي تتناولها الطبقة المثقفة على أنها حقائق لا تقبل الشك تشكل النسبة الأكبر من المقدمات التي يبني عليها هؤلاء أفكارهم واستنتاجاتهم. عندها، على المرء أن يتصور أي نوع من الإنتاج الفكري والمعرفي يمكن أن يقدمه هؤلاء.

في شرقنا الأوسط؛ أغلب المقدمات التي ننطلق منها هي مقولات أو معلومات تتراوح بين المختلق والمشوه والمتوهم، ووسط كثافة وازدحام هذه المواد العجيبة لا تجد الحقائق العلمية التي يلجأ إليها البعض أحياناً مكانتها التي تستحقها، بل كثيراً ما ترد جنباً إلى جنب مع تلك المقولات المغلوطة فلا تكون نتائجها ملموسة. 

نظرية "الفوضى الخلاقة" مثالاً صارخاً

الأمثلة على تلك المقولات أكثر من أن تحصى، ولكن في هذا المقال يكفي التنويه إلى واحدة نالت حظاً وافراً من العناية والاهتمام، إذ تعج المواقع الإلكترونية بعناوين لمقالات ودراسات ورسائل ماجستير وربما أطروحات دكتوراه ومؤلفات تحمل عنوان "الفوضى الخلاقة"؛ تلك النظرية الشهيرة التي تُنسب إلى وزيرة خارجية الولايات المتحدة في إدارة الرئيس "بوش" "كونداليزا رايس". ما رأيك عزيزي القارئ إذا قلت لك إنه حتى الآن لم يستطع أحد الباحثين - نزولاً عند التحدي والرهان – أن يجد مصدراً لهذه المقولة التي قيل إنها قالتها خلال لقاء صحفي مع مجلة "النيويورك تايمز"، وقيل إنها قالتها على مدرج جامعة القاهرة، وكلا الموقعين لا يوجد فيهما ما يثبت هذا الادعاء. بل وصل التحدي بأحدهم أن قال: أنا أقبل بشهادة زوج "رايس" إن قال سمعتها تقول هذا الكلام وهي نائمة.

تطالع القارئ في كتب الاستراتيجية عناوين نظريات واستراتيجيات معروفة للمهتمين بالعلاقات الدولية والصراع الدولي والنظام الدولي من مثل: نظرية الردع، نظرية الاحتواء، نظرية الانتقام الشامل، نظرية الرد المرن، استراتيجية الرد المتدرج، نظرية الدومينو، نظرية الحرب الاستباقية. أما نظرية الفوضى الخلاقة فلا يوجد لها أثر في أي مرجع علمي معتبر.

ما الذي يستحق البحث؟

لا شك أن السؤال الذي يتوارد إلى ذهن الكثيرين ممن يعتقدون أن هذه الأكذوبة (النظرية) حقيقة مطلقة هو: وماذا تسمي ما يحصل الآن في البلدان العربية؟ سؤال غريب! إذ يحتوي في طياته اتهاماً للثوار بأنهم مجرد بيادق تحركهم الولايات المتحدة في سياق تطبيقها لنظرية "الفوضى الخلاقة"، وكأن المنطقة العربية هي الوحيدة عبر التاريخ التي حصل فيها مثل هذا الحراك الثوري. وهذا السؤال رغم غرابته يضع بين يدي الباحث، أو أمام من يرغب بتنفيذ أبحاث رصينة فكرة تستحق البحث، فأهداف من اختلق الأكذوبة ومصالحه الكامنة خلف هذا الابتكار والخلفية العقدية للمبتكر سواء كان فرداً، أم مؤسسة، أم جهة موضوع يستحق البحث. كذلك، مستوى النجاح الباهر لتسلق هذه النظرية (الأكذوبة) موضوع يستحق البحث.

ليست نظرية "الفوضى الخلاقة" حقيقة مطلقة، بل على العكس تماماً؛ الادعاء بأنها مختلقة هو الحقيقة المطلقة، فنظرية "الفوضى الخلاقة" لا تعدو عن كونها أكذوبة خلاقة. 

   

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات