رحيل خيري الذهبي: نصف قرن من كتابة الرواية.. وقرون من معارضة الاستبداد

رحيل خيري الذهبي: نصف قرن من كتابة الرواية.. وقرون من معارضة الاستبداد

برحيل خيري الذهبي، يفقد الأدب الروائي السوري دعامة أساسية من دعاماته.. فقد شكّل حضور خيري الذهبي الروائي منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين، أي على مدار نصف قرن بالتمام والكمال، شكّل حضوره جزءاً من المشهد الروائي الذي لا يمكن التأريخ له من دون الوقوف باهتمام عند إسهامات خيري الذهبي الروائية، ناهيك عن مساهماته الأخرى في مجال كتابة المسلسلات حينا، وأدب الأطفال حيناً آخر، فضلاً عن القصص القصيرة والمقالات والدراسات البحثية.. لكن كل تلك الإسهامات على أهميتها، وأهمية حضوره الإشكالي فيها، لم تستطع أن تشوّش على الحضور الأساسي لخيري الذهبي: إنه الروائي السوري وكفى.

الاستقامة الشخصية والنزاهة الفكرية

إن المفتاح الحقيقي للدخول لأدب خيري الذهبي هو: الصدق الفني، فقد كان خيري الذهبي منحازاً على الدوام لخيار الصدق في تشريح الواقع والحديث عن صراعاته الحقيقية، لم يكتب يوماً عن صراعات زائفة، ولم ينجر يوماً وراء الكتابة عن موضة موضوع رائج.. وإنما اختار على الدوام الذهاب إلى الصراعات الحقيقية، الصراعات التي تعبر عن واقع معاش، وليس واقعاً مزيفاً.. وربما مردّ هذا أمران: 

- الأول: هو الاستقامة الشخصية.. إذ لم تكن لدى خيري الذهبي أي رغبة في تزييف الواقع عبر التلهي بموضوعات هامشية لا قيمة لها. 

- الثاني: الانتماء الأصيل لمفهوم المثقف المعارض، وخصوصاً حين يكون النظام الذي يعارضه منظومة متكاملة من الكذب السياسي والشعاراتي والأخلاقي.. ولهذا كان يجد خيري الذهبي نفسه في صف الحقيقة، لمجرد علمه أن كل ما يقوله النظام وما يفرزه إعلامه وما تروّجه آلته الدعائية والثقافية كتلة أكاذيب وتضليل وتزوير. 

وربما كان كتاب السيرة الذاتية (من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل) الذي نشره عام 2019 ودوّن فيه جانباً هاماً من سيرته الذاتية، ومن تجربته في الأسر حين كان ضابط ارتباط في المنطقة المنزوعة السلاح بعد حرب 1973 وأُسر بعدما احتلت إسرائيل تلك المنطقة.. ربما كان هذا الكتاب نموذجاً عما كشفه الكاتب من أكاذيب وتضليل نظام البعث في المجالات كافة؛ فأثناء انتدابه لتصحيح أوراق الامتحانات العامة في مدينة حلب – وكان الذهبي يعمل في سلك التعليم - كانت نسبة النجاح ثلاثين بالمئة، ما أثار انزعاج وزير التربية البعثي فاتهم المصححين بالعداء للثورة، طالباً منهم أن يرفعوا نسبة النجاح حتى ولو بالتزوير كي لا يقال "إن التعليم في زمن الثورة انحطّ وتراجع بدليل نسبة النجاح المتدنية، كما قررتم في تصحيحاتكم"، وبالفعل رفعوا نسبة النجاح إلى ستة وستين بالمئة أي بزيادة واحد بالمئة عن السنة التي سبقت الثورة، أي انقلاب الثامن من آذار. 

وأثناء وقوعه في الأسر في السجون الإسرائيلية ينقل خيري الذهبي عن الجنرال الإسرائيلي الذي خاطبه بالقول: "نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكن حكامك ورؤساءك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنا.. ستعاني كثيراً إن ظللت معادياً للإسرائيليين، وستعاني ليس من إسرائيل، بل من حكامك في سوريا"  بهذا المستوى من الصدق والشفافية في نقل الحقائق التي عايشها أو خبرها في سجل مشواره الحياتي، كان خيري الذهبي يتعامل مع الواقع في رواياته، وكان يقول لنا ما يُشعر أن مسؤوليته كأديب تُملي عليه قوله.. ليكون جديراً بأن يكون أحد أدباء عصره، لا مجرد كاتب من الكَتَبة الباحثين عن مجدٍ أو شهرة.

رواياته الأولى: حكايا الناس البسطاء ونذر الصراع الطائفي

كان حلم خيري الذهبي المولود في حي القنوات بدمشق عام 1946 حين سافر إلى مصر في ستينيات القرن العشرين أن يدرس السينما، لكن إغلاق أبواب معهد السينما أمام الطلاب الشرقيين دفعه للسفر إلى فرنسا، ولما لم يتمكن من دراسة السينما هناك.. قفل عائداً إلى القاهرة ليدرس الأدب العربي، ثم يعود إلى وطنه سوريا ليدّرس اللغة العربية في المدارس الثانوية. 

خسر خيري الذهبي حلمه السينمائي، لكننا كسبنا أديباً استطاع فيما بعد أن يدخل السينما والتلفزيون من بوابة الأدب.. ومنذ أصدر خيري الذهبي روايته الأولى (ملكوت البسطاء) عام 1975 لم يضل طريقه إلى مضمار الأدب الذي يبدو أنه خُلق له أبداً، كانت أحداث الرواية تدور حول عائلة (البسطا) التي تسكن ضاحية المزة في مدينة دمشق التي كانت في أوائل القرن الماضي أشبه بقرية ملتصقة بالمدينة، شأنها في ذلك شأن كفرسوسة التي بقيت كذلك حتى ثمانينات القرن العشرين.. ولما كانت أحداث الرواية تدور في فترة حرب السفربرلك في عشرينيات القرن العشرين.. فقد تابع خيري الذهبي تقديم بانوراما اجتماعية من خلال تتبع مصائر أفراد تلك العائلة التي ترملت الزوجة فيها بعد فقد زوجها في حرب اليمن.. وفي خضم حرب السفربرلك تتقاطع أحداث ومصائر أفراد هذه العائلة... إلى أن تنتهي نهاية تراجيدية يسلب فيها الأخ زوجة أخيه وابنه بعد أن يظن أن شقيقه قد مات في حرب السفربرلك، فيما هو قد وقع في الأسر لدى الإنكليز.. وتتعقد العلاقة بينهما ليعمل أجيراً في دكان أخيه، فتستبدل العلاقة الأسرية بعلاقة العامل ورب العمل، ما يشير إلى بروز فئة اجتماعية استطاعت أن تعبر عن تحولات اجتماعية وسياسية كبرى في ذلك الزمان والمكان. 

وإذا كانت رواية (طائر الأيام العجيبة) لم تلق نجاحاً لا عندما صدرت كرواية، ولا عندما حوّلها خيري الذهبي إلى مسلسل تلفزيوني أخرجه علاء الدين كوكش لصالح تلفزيون دبي، فإن رواية (ليالٍ عربية) التي صدرت عام 1981 قد أشارت إلى قدرة خيري الذهبي أو ربما رغبته الصادقة في معالجة قضايا الواقع السوري والعربي وتشريح صراعاته الحقيقية، حين تناول المسألة الطائفية متحدثاً عن أجواء الحرب الأهلية في لبنان، بينما عينه على الواقع السوري الذي كان يعيش بدوره حرباً أهلية تحت السطح تقودها سلطة طائفية متوحشة.. متحدثاً عن قمع أجهزة الأمن، وسوء تطبيق الاشتراكية المزعومة في الواقع الزراعي.. وهي قضايا كلها لم يعانِها لبنان، وإنما كانت ابنة المعاناة السورية، وإن ألمح الكاتب أن الأحداث تدور في شقة سكنية في بيروت، أصابتها قذيفة أثناء وجود مجموعة من الشخصيات متباينة الانتماءات في جلسة سهر وسمر، فحبست الجميع بين السماء والأرض، وأخرجت تناقضاتهم وقصصهم المؤلمة في سجل حياتهم، وألمحت إلى أن هناك مدناً عربيةً أخرى تتهددها الحرب الأهلية، طال الزمن أم قصر، في ظل وجود صراعات البنى الطائفية واستعارها تحت السطح الهادئ ظاهرياً. 

المدينة الأخرى وحسيبة: من العلاقة مع السلطة إلى العلاقة مع دمشق

ظلت العلاقة مع السلطة في أدب خيري الذهبي جزءاً من منظومة فساد، كلما توطدت كلما أوغل المرء بالسقوط.. ولعل هذا يتضح بشكل جلي في روايته (المدينة الأخرى) التي صدرت عام 1983.. التي تقوم على فكرة الحلم الحضاري المتجسد في مدينة جديدة في الصحراء، في أقصى شمال البلاد، يقوم على هندستها (أدهم الأدهمي) الذي يمثل سقوطه أو إسقاطه انهياراً لقيم النزاهة والاستقامة التي كانت تصنع الحلم الأفلاطوني في مدينته، كما يمثل الغضب الأمني عليه، نهاية لحلم المدينة بالنسبة له، حيث يعاد إلى العاصمة ليعيّن مراقباً في وظيفة هامشية. هكذا بقي خيري الذهبي مسكوناً بفكرة تشريح العلاقة مع السلطة من منظور معارض حقيقي وأصيل.. صحيح أنه اشتغل في المؤسسات الحكومية في أكثر من موقع، بدءاً من الإذاعة والتلفزيون، إلى وزارة الثقافة، إلى تجربته شبه النقابية في (اتحاد الكتاب العرب) الذي يُفترض أنه اتحاد لرعاية الأدب والأدباء فيما هو لمراقبتهم ومحاولة تدجينهم.. لكن خيري الذهبي في كل تلك المواقع لم يكن موظفاً ولا رجل سلطة، كان ذاك الكاتب صاحب الرؤية الذي يحاول أن يوسع هامشه الكتابي رضي من رضي وغضب من غضب.. وعندما يضيق الهامش لا مانع من تجاوزه.. ولنا في مشاداته وصراعاته داخل اتحاد الكتاب في تسعينيات القرن العشرين مثالاً ناصعاً على حيوية حضوره وإخلاصه لصفة الأديب المعارض لنظامٍ طالما وجد أنه لا يشبهه ولا يشبه الوطن الذي يحكمه. 

في عام 1988 شرع خيري الذهبي في نشر الجزء الأول من ثلاثيته الروائية (التحولات) وكان بعنوان: (حسيبة) كان هذا العمل "حدثاً متميزاً في الرواية السورية" كما وصفته مجلة (العربي) الكويتية الشهيرة.. وأذكر وكنت طالباً في السنة الأولى من قسم الأدب والنقد في المعهد العالي للفنون المسرحية، أن الرواية كانت حدث الموسم الثقافي بالفعل.. توالت عنها الدراسات والمقالات في الصحف اليومية والمجلات الثقافية على مدار أكثر من عام، لدرجة غدت معها ظاهرة أدبية، ليس لمجرد أنها رواية لاقت رواجاً وانتشاراً وحظيت باحتفاء خاص في الوسط الثقافي والنقدي، بل لأنها رواية أعادت التفكير حينها بصورة دمشق في الرواية السورية، وقدمت تحولاً جديداً في معالجة مجتمعها وقضايا الصراع بين الزمان والمكان، وبين الثبات والتغيير، وبين الميلودراما التي كانت تجنح إليها أغلب الروايات التي تكتب عن دمشق وبين التراجيديا البطولية التي اتسمت بها هذه الرواية، وقد سطعت بطلتها النسائية في سماء الرواية السورية كواحدة من أبرز الشخصيات الروائية بقاء وأثراً وغنى. 

في (حسيبة) قدّم خيري الذهبي نظرية جديدة عن دمشق باعتبارها واحدة من أبرز مدن الواحات على طريق القوافل التجارية، انتقد ركون أهلها للاستقرار وبعدهم عن المغامرة، وعاب أحلام "الدكنجية" الصغيرة، بعد أن نسي الأحفاد الأحلام الكبيرة. نظرية لم تكن منصفة تماماً، لأنه داخل ذلك الاستقرار عاش الدمشقيون مغامرة يومية لا تنتهي لابتداع نمط حياة مغرق بالتفاصيل والحساسية والزخرف والجمال.. لقد حولوا الجمال وإتقان مظاهره إلى قضية تشمل كافة مجالات وصور حياتهم ووجودهم.. بدليل ذلك الاستغراق البديع في وصف مفاتن البيت الدمشقي في الرواية باعتباره حاضنة لعلاقاتها الدرامية البالغة الثراء والمعبرة عنها.. لكن مهما يكن، قدّم خيري الذهبي في (حسيبة) نظرية تستحق أن تناقش وأن تكون زاوية اكتشاف عميقة لطبيعة مجتمع دمشق في أعمق تجليات سكونه.. زاوية اكتشاف مسكونة بفلسفة الرؤية لا ببساطة سرد الحكاية، مسكونة بالشغف والمشاكسة والتمرد من أجل التعبير عن أعمق حالات الانتماء لا الانسلاخ عن المدينة. 

توالت أجزاء ثلاثية (التحولات) بعد ذلك: (فياض) 1989 (هشام أو الدوران في المكان) 1996 لتقدّم في مجملها إضافة هامة للرواية السورية، وهي تقرأ التاريخ، وتحاول أن تصوغ منه عوالم روائية جديدة، تمزج تطلعات الماضي بقلق الحاضر، ومغامرة التمرد عليه، وخلال إنجازه لتلك الثلاثية نشر خيري الذهبي مجموعته القصصية الوحيدة (الجد المحمول) التي صدرت عن وزارة الثقافة عام 1993 لكن كتابة القصة القصيرة كانت مجرد محطة عابرة في مساره الروائي الذي خُلق له.. فلم يكرر التجربة مرة أخرى.. وإن عاد للكتابة عن دمشق مرات ومرات، حتى ختم حياته الروائية بروايته العذبة (الجنة المفقودة: من القنوات إلى بساتين كفرسوسة) التي قال لي إنه كتبها أثناء وجوده في دبي بعد الثورة، وقبل أن تنشرها دار الفكر عام 2021  بسنوات عدة، وقد استحضر فيها جزءا من سيرته كطفل، ومن سيرة دمشق التي عاشها وسحر تفاصيلها المكانية وطقوسها الاجتماعية، 

الدراما التلفزيونية: مسلسلات ممنوعة من العرض!

كان خيري الذهبي أحد الأدباء الذين أسهموا في رفد الدراما التلفزيونية بنصوص وسيناريوهات شكلت إضافة هامة لهذا الفن الجماهيري البالغ التأثير والانتشار، الذي انتهى إلى أن يكون ملعباً لأنصاف الأميين والجهلة من كتبة الحكايات الساذجة بلا رؤية ولا عمق ولا حتى خيال. 

عمل خيري الذهبي على تحويل رواياته بنفسه إلى مسلسلات تلفزيونية، فقد كتب روايته الأولى (ملكوت البسطاء) في خماسية تلفزيونية من إنتاج التلفزيون السوري بعنوان: (البسطاء) أخرجها سليم صبري عام 1976، وقدّم روايته (الشاطر حسن) في مسلسل بعنوان (الشطار)، مثلما فعل مع روايته (طائر الأيام العجيبة) وكلا العملين كانا من إخراج علاء الدين كوكش، وإنتاج تلفزيون دبي عام 1980 وقد استمرت شراكة خيري الذهبي مع المخرج المثقف والقارئ النهم علاء الدين كوكش في فترة ثمانينات القرن العشرين، حين قدّما مسلسل (الوحش والمصباح) الذي أنتجه تلفزيون دبي عام 1982، وكان دراما تاريخية من العيار الثقيل تتحدث عن غزو تيمورلنك لدمشق، في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ولقاء هذا الوحش الذي دمّر حضارة الشرق، بمصباح العلم والفكر “ابن خلدون” الذي كان في دمشق خلال حصار تيمورلنك لها. 

لم تكن أعمالاً كهذه تروق للرقابة البعثية، فمُنع مسلسلي (الشطار) و(الوحش والمصباح) من العرض في التلفزيون السوري، ورفضتهما الرقابة بسبب حساسيتهما التاريخية، لكن الحقيقة أن المنع كان بسبب ما ينطوي عليه العملان من صراع بين الفكر التنويري والقوة الغاشمة.. بين طبقة المسحوقين المتمردين على السلطة ودجلها، وبين السلطة التي تبدو في ممارساتها أقرب إلى العصابة.. وكان هذا في ثمانينات القرن العشرين، حيث مارس نظام حافظ الطائفي أعلى درجات الشراسة والقمع ما جعل الرقابة تعتبر هذا المسلسل تحريضاً موصوفاً، هم بغنى عنه. 

لم تقتصر شراكة خيري الذهبي على تعاونه مع المخرج علاء الدين كوكش، وإنما تعاون مع مخرج بارز ورائد آخر هو غسان جبري الذي قدّم معه مسلسل (لك يا شام) الذي أنتجه التلفزيون السوري وعُرض عام 1989. كان مسلسل (لك يا شام) صرخة احتجاج حادة على المخطط التنظيمي الذي التهم أحياء عريقة من أطراف المدينة، والذي غدا وسيلةً للإثراء غير المشروع والفساد على حساب هوية المدينة العريقة، وروحها الاجتماعي التي كانت تتعرض لأعلى درجات الاستهداف باقتلاع النمط المعماري الفريد الذي أبدعته وعاشت فيه. 

في تسعينيات القرن العشرين بدأت فورة الدراما التلفزيونية بعد تطبيق الخليج حظراً على الإنتاج الدرامي الأردني الذي كان في معظمة إنتاجاً بدوياً رائجاً بسبب موقف الأردن المؤيد لنظام صدام حسين في غزو الكويت. أدى هذا إلى ارتفاع الطلب على الإنتاج الدرامي السوري وظهور العديد من شركات الإنتاج الخاصة، لكن في الوقت ذاته اختلفت معايير صناعة المحتوى وقيمة النصوص.. لم يعد لأدباء مثل خيري الذهبي وطروحاتهم الفكرية دور في ظل فوضى الإنتاج.. ولهذا تعرض نص (البناء 22) الذي قدّمه خيري الذهبي إلى كثير من التحويرات الكوميدية، كان خيري الذهبي يرمز من خلاله إلى الدول العربية وعلاقاتها فيما بينها.. لكن العمل بإضافات مخرجه هشام شربتجي الذي وضع اسمه في بند التأليف مع السيناريست مازن طه، تحول إلى كوميديا تهريجية بوجود الممثل الراحل عصام سليمان (صاحب شخصية بهلول) فبات عملاً لا يشبه فكر مؤلفه في شيء. 

باستثناء مسلسل (أبو حيان التوحيدي) الذي أنتجه تلفزيون دبي عام 1993 بتوقيع المخرج الأردني صلاح أبو هنود، فإن خيري الذهبي لم يقدم فيما بعد أي عمل تلفزيوني ذا قيمة في فترة التسعينيات وخلال العقد الأول من القرن الحالي، وربما كان تعاونه مع المخرج والمنتج المتواضع الموهبة والأخلاق يوسف رزق في مسلسلات (رقصة الحبارى) 1999 و(وردة لخريف العمر) 2002 و(مخالب الياسمين) 2003  خير تعبير عن الحال التي آلت إليها الدراما التلفزيونية على يد أمثال هؤلاء المنتجين.. فقد كانت المبالغة الصارخة في لغة الإخراج والملابس والأزياء ومحاولة افتعال مشاهد الإثارة والآكشن المجانية ممزوجة بحلول ميلودرامية رخيصة هي مقتل تلك المسلسلات التي لم تقدم أي إضافة لمسيرة خيري الذهبي التنويرية مع الدراما التلفزيونية. ولكن يبقى مسلسل (أبو خليل القباني) الذي كتبه خيري الذهبي ورصد فيه مسيرة الرائد المسرحي الدمشقي الكبير وأنتج عام 2010 وعهد فيه المنتج المنفذ هيثم حقي بالإخراج لابنته إيناس حقي، عملا محترماً ومشغولا بجدية وسعي نحو الإتقان، وإن لم يحقق أي صدى جماهيري يذكر.. بسبب ضعف وبرودة المعالجة الإخراجية.   

حسيبة.. الحظ العاثر سينمائياً وتلفزيونياً

حين تم تحويل رواية حسيبة إلى مسلسل تلفزيوني كتب السيناريو له الأستاذ خيري نفسه، وأخرجه الأردني عزمي مصطفى، ومن قبل إلى فيلم سينمائي كتب له السيناريو وأخرجه المخرج الراحل ريمون بطرس، وأنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 2008، قلت للأستاذ خيري الذهبي بعد أن شاهدت العملين وكتب دراستين عنهما: 

" إن رواية حسيبة يا أستاذ خيري كان حظها في السينما والتلفزيون مثل المرأة الساحرة الجمال التي كثر خاطبوها وطالبو القرب منها، وتنافس على الاقتران بها الطبيب اللامع والمهندس الوسيم والصيدلاني المتميز والمحامي صاحب النسب العريق والشباب والبريق.. ثم انتهت إلى الزواج من رجل متزوج ولديه سبعة أولاد" 

ضحك الأستاذ خيري وكانت ضحكته نوعاً من الموافقة والإقرار.. فلم يكن الفيلم السينمائي ولا المسلسل التلفزيوني بمثل سحر تلك الرواية على الورق، ولا حقق النجاح الجماهيري الذي يحكى عنه بالمقابل. 

الكتابة للأطفال.. وفن فتح الأبواب الجديدة!

طويلة مسيرة خيري الذهبي مع الحياة والفن والسياسة ودمشق.. طويلة وزاخرة بما أنتجته وما ارتادته من آفاق. فقد كان خيري الذهبي عنواناً للحيوية الأدبية، لم يغلق باب في وجهه إلا قرر أن يفتح باباً آخر كي يكتب بحرية. هكذا كان اتجاهه للكتابة في مجال قصص الأطفال المصورة (الكوميكس) في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينات القرن العشرين، في مجلة (سامر) اللبنانية لصاحبها وليد الحسيني، والتي أسماها باسم ابنه، محاولة للخروج من التضييق الرقابي للسلطة في الثمانينات، ولغرس قيم الحرية والتمرد والنزاهة في نفوس جيل كان يرى فيه خيري الذهبي صورة أمل لا بد أن يأتي.. وهكذا كانت كتابته للمسلسلات التاريخية الهامة التي أنتجها تلفزيون دبي في الثمانينات أيضاً، شكلاً من أشكال البحث عن أفق جديد يهرب فيه من مقص الرقيب البعثي وجهله وريبته وشكوكه. وهكذا كان خروجه مؤيداً للثورة تتويجاً لكل معارضته الصادقة والسابقة. لم ينكث العهد، ولم يحنث بقسم الحرية، ولم يخلف موعداً من الناس.. وحين شاهد صور مجزرة التضامن الرهيبة، التي نشرتها صحيفة (الغارديان) في نيسان/ أبريل من عام 2022: كتب كلماته المؤثرة البليغة ليجدد موقفه الصارخ من إدانة جرائم نظام الأسد ومليشياته: “المجزرة مستمرة منذ ٢٠١١، لم تتوقف،ما يحدث الان أننا نكتشف أو نتذكر بعض تفاصيلها.. أصوات الشهداء الذين رحلوا في حفرة التضامن تصم أذني، رغم صمتهم”.

 

عثرات مع التاريخ 

حكى لي خلال لقاءاتنا في دبي عن ألمه لمغادرة دمشق، وعن ألمه الأكبر لخسارة مكتبته الزاخرة بكنوز المعرفة والمصادر التاريخية النادرة التي طالما خانته الذاكرة وهو يكتب من وحي بعض مصادرها الهامة على الفيسبوك في السنوات الأخيرة ملخصات تعوزها الدقة التاريخية أحيانا.. وعلى العموم كان تعامل خيري الذهبي مع التاريخ إحدى النقاط الإشكالية الأكثر إثارة للجدل في مسيرته، فقد أصر على التعامل مع التاريخ بمنطق الأديب.. ضارباً بعرض الحائط أساسيات التحقيق والتوثيق التي تستلزمها فحص بعض الوقائع والحالات، وربما هذا ما دفع وزارة الثقافة لسحب كتاب (منصور بن سرجون التغلبي) لمؤلفه الإكسرخوس جوزيف نصر الله، الذي حققه وقدم له خيري الذهبي، ونشرته عام 2008 أثناء احتفالية دمشق عاصمة ثقافية، حيث اعتُبر كتاباً ملفقاً ومسيئاً للأديان، وألف المؤرخ الفلسطيني شوقي أبو خليل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة دمشق، كتاباً كاملاً لتفنيد الأخطاء التاريخية التي وقع بها المؤلف والمحقق معاً. 

برحيل خيري الذهبي في الرابع من تموز/ يوليو الجاري، في منفاه الباريسي الذي لجأ إليه بعد سنوات من التنقل بين مصر والإمارات والأردن، تخسر الثقافة السورية برمتها عهداً من الوعي والنضج والإنجاز.. عهداً كان خيري الذهبي واحداً من صناعه الأساسيين، لقد شكل خيري الذهبي صورة (الأديب المعارض) مثلما شكل ميشيل كيلو صورة (السياسي المعارض) ومثلما شكل نبيل المالح وعمر أميرلاي صورة (السينمائي المعارض). لم يكن هؤلاء الوحيدين الذين عارضوا الطغمة الهمجية الحاكمة، لكنهم كانوا – كل في مجاله – الأقرب إلى الناس، والأكثر تواضعاً في التعامل معهم، وفي محاورتهم، والأكثر إخلاصاً للأعمال التي أنتجوها في كل فترات معارضتهم وسجلوا من خلالها شهادتهم المرة على كل شيء. كتب خيري الذهبي الرواية لمدة نصف قرن، لكنه عارض الاستبداد لقرون طويلة.. ونبش سير مجرميه وصراعات مستبديه في أكثر من عهد، ليقدّم في أكثر من مسلسل أو رواية. 

وداعاً خيري الذهبي... لكنه وداع البقاء لا الرحيل.  

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات