أطلق ناشطون ومسؤولون في المعارضة تحذيرات من إمكانية مواجهة المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني في شمال سوريا أزمة أمن غذائي هذا العام، بسبب التخوف من عمليات تهريب محصول القمح الذي انتهى للتوّ موسم حصاده، بينما توجهت أصابع الاتهام إلى الفصائل العسكرية بالمسؤولية، الأمر الذي نفاه مسؤولون فيها، بينما كشفت الأرقام عن وجود فائض في محصول القمح القاسي مع الحاجة إلى القمح الأبيض المستورد.
ورغم أن هذا الموسم ليس الأول الذي تتسرب فيه كميات غير قليلة من الحنطة المنتجة في مناطق سيطرة الفصائل إلى خارجها، سواء داخل سوريا أو تركيا، إلا أن الخشية من تداعيات الحرب في أوكرانيا، التي تعتبر مع روسيا، المصدرين الرئيسيين للقمح دولياً، يبدو أنها كانت الدافع الرئيسي في دق ناقوس الخطر.
وكان أول تفاعل محلي مع التحذيرات العالمية من إمكانية حدوث أزمة على صعيد تصدير القمح من المنطقة الملتهبة قد بدأ مع رفع حكومة ميليشيا أسد سعر شراء الطن إلى مليوني ليرة (٥٠٠ دولار)، بينما حددت الإدارة الذاتية لمناطق شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها ميليشيا "قسد" السعر بمليونين ومئتي ألف ليرة (٥٥٠ دولار) وهو أعلى سعر على الإطلاق في سوريا، سعّرت الحكومة المؤقتة الطن ب٤٧٥ دولاراً للقمح القاسي، و ٤٦٠ للطري، أما حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، فأقرت سعر الطن الواحد بـ ٤٢٥ دولاراً.
فارق السعر هذا كان الدافع الرئيسي -حسب ما أُشيع- لامتناع المزارعين في المناطق المحررة عن بيع محصولهم إلى مؤسسة الحبوب التابعة للحكومة المؤقتة، التي قالت إن حركة تهريب المادة إلى مناطق سيطرة النظام وقسد قد شهدت نشاطاً مؤخراً، الأمر الذي "يتطلب التحرك من أجل مواجهة المشكلة"، علماً أن الكمية التي أقرت "المؤقتة" شراءها تقترب من الإنجاز.
وكانت مؤسسة الحبوب قد أعلنت أنها تسعى لشراء ٢٠ طناً من إنتاج القمح في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، بينما يتم تغطية باقي الكمية التي تحتاجها هذه المناطق، والتي تبلغ سنوياً نحو ٢٠٠ ألف طن، من خلال الاستيراد والتبرعات والهبات سواء الداخلية أو الخارجية، مع العمل على تسويق باقي الكميات المنتجة في المنطقة نفسها لصالح القطاع الخاص.
أسباب ودوافع
لكن يبدو أن إحجام المزارعين، في بداية مرحلة التسويق التي تلت الحصاد، عن بيع محصول القمح لمؤسسة الحبوب المسؤولة عن تأمين الدقيق للأفران التابعة للقطاع العام في المناطق الخاضعة لإدارة الحكومة المؤقتة، وعدم تجاوز الكميات المسوقة نصف ما هو مخطط لشرائه حتى نهاية الأسبوع الماضي، دفع الحكومة ومؤسساتها لإطلاق حملة من أجل مواجهة هذه المشكلة، حيث تحدث العديد من المسؤولين فيها عن تزايد عمليات البيع للتجار وتهريب مادة القمح.
ورغم أن وزارة الداخلية قد أكدت في التعميم الصادر في العشرين من أيار/مايو ٢٠٢٢ على تطبيق قرار الحكومة المؤقتة بمنع تصدير القمح من المناطق المحررة، وطالبت مديريات الشرطة والأمن العام الوطني بالعمل مع الشرطة العسكرية والفصائل والمجالس المحلية على التصدي لهذه الظاهرة ومصادرات الكميات التي يتم ضبها خلال عمليات التهريب، إلا أن هذا الإجراء لم يكن كافياً بالنسبة للجهات التي أكدت استمرار التهريب رغم نفي الفصائل ذلك.
وكانت صفحات إخبارية محلية قد تداولت على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات تُظهر شاحنات محملة بمادة القمح داخل معبر الراعي في ريف حلب الشرقي، قالت إنها مُعدّة للتصدير إلى تركيا، الأمر الذي نفته "هيئة ثائرون للتحرير" التي تدير المعبر.
ونشرت حسابات تابعة للهيئة على موقعي تويتر وفيسبوك صوراً تُظهر قياديين فيها داخل المعبر، حيث أكد مصطفى سيجري رئيس الدائرة السياسية في "ثائرون" أن الصور والفيديوهات هي لسيارات قادمة من تركيا محمّلة بمادة القمح الأوكراني، وليست مغادِرة بشحنات من القمح المحلي.
أمر أكده القيادي العسكري في الهيئة، علاء أيوب، المعروف باسم الفاروق أبو بكر، الذي لم يستبعد خلال حديثه مع "أورينت نت" في الوقت نفسه حصول عمليات تهريب من خلال المعابر غير الرسمية مع مناطق قسد والنظام، مشدداً على أنه يجب العمل على احتوائها.
وقال في رده على الاتهامات الموجهة لـ"هيئة ثائرون" بالمشاركة بعمليات الاتجار بالقمح وتهريبه: “لا يمكن أن نشارك في المتاجرة بقوت شعبنا الذي خرجنا في هذه الثورة وخضنا كل المعارك من أجله، لكن هذا لا يمنع وجود بعض ضعاف النفوس ممن لا يتورعون عن استغلال مناصبهم أو إمكانياتهم للقيام بهذا الفعل المرفوض”.
وأضاف: “نحن نتابع عن كثب كل الممرات وطرق التهريب وعمليات الشراء، وسنعمل على التصدي بكل حزم لأي عملية تهريب لمادة القمح إلى مناطق سيطرة النظام أو قسد، أما فيما يخص تصدير كميات من القمح إلى الخارج عبر تركيا، فهذا يجري غالباً بنظام الاستبدال، حيث يتم تصدير القمح القاسي غير الصالح للخبز بآخر من النوعية الطرية، وذلك بترخيص من الحكومة المؤقتة، وهي العملية التي كانت تحصل باستمرار وبشكل شرعي ومعلوم للجميع”.
تأكيدات
إجابات قد لا تكون مقنعة للكثيرين خاصة مع التأكيدات التي حصل عليها موقع أورينت نت" من عدد كبير من الناشطين والسكان في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني حول انتشار عمليات تصدير وتهريب محصول القمح من هذه المناطق، بالتعاون والشراكة بين قادة ومسؤولين من مختلف الفصائل.
وحسب المعلومات التي تم تداولها، فإن عمليات تهريب القمح تنطلق بشكل رئيسي من معابر "السكرية" بريف مدينة الباب باتجاه مناطق النظام. ومن معبر أبو الزندين بريف الباب أيضاً باتجاه منطقتي النظام وقسد، بالإضافة إلى تسهيل مرور القمح من مدينة جرابلس إلى مدينة منبج الخاضعة لسيطرة قسد، عبر قرى عرب حسن وتوخار بريف جرابلس الجنوبي، وقرية بصلجة بريف منبج الشمالي الغربي.
المطالبة برفع السعر
وفي إطار البحث عن حلول من أجل مواجهة هذه المشكلة، طالب الكثيرون الحكومة المؤقتة برفع سعر شراء طن القمح باعتباره الحل الأكثر نجاعة ومباشرة، مؤكدين أنه في حال تقلص الفارق بين السعر الذي حددته المؤقتة وبين السعر الذي يعرضه النظام وقسد، فإن عملية التهريب لن تكون مُجدية اقتصادياً لأصحابها.
لكن وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة عبد الحكيم المصري يستبعد أن يكون العامل المادي هو الدافع الرئيسي لتهريب القمح من المناطق المحررة، ويرى أن الهدف هو التأثير على الأمن الغذائي فيها.
ويقول في تصريح لـ"أورينت نت": “المقارنة ظالمة بيننا وبين الأطراف الأخرى، فبينما ندفع نحن بالدولار تدفع حكومة النظام والإدارة الذاتية بالعملة السورية التي هي بلا قيمة حقيقية عملياً، أضف إلى ذلك أننا نقدم الكيس مجاناً كما نتحمل أجور النقل، بالمقابل فإن النظام يفرض ستة حسومات على السعر الذي يدفعه، ومنها دعم المجهود الحربي والبيئة وتحسين إكثار البذار وغيرها مما يصل مجموعه تقريباً إلى ١٥ بالمئة من السعر، وكذلك بالنسبة لقسد فهي تفرض تقريباً ضرائب وحسومات مماثلة أو تزيد لتصل إلى عشرين بالمئة، وبالتالي فالمسألة ليست مسألة فارق سعر وإنما تفريغ مناطقنا من مادة القمح”.
ويضيف: “بالنسبة لخطتنا المُقرّة بشراء عشرين ألف طن فنحن نقترب من إنجازها، حيث دخلت صوامعنا بالفعل نحو ١٢ ألف طن بواقع ١١٥٨٨ طناً من منطقة نبع السلام، و ٤٦٥ طناً من منطقة درع الفرات، وهناك خمسة آلاف طن تم التعاقد عليها وبالتالي لم يتبقَّ سوى القليل لننجز الخطة التي تتناسب والمخصصات المالية لمادة القمح، وهنا أطالب المجالس المحلية بشراء الكميات الأخرى حسب ما تسمح بها ميزانياتها، وتخزين هذه الكميات كإجراء احتياطي”.
إمكانات محدودة
وتطرح قضية فارق الكميات التي ستبقى خارج الخطة الشرائية للحكومة المؤقتة سؤالاً كبيراً حول السوق التي يمكن للمزارعين تصريفها فيه، خاصة مع التشديد على تطبيق إجراءات منع إخراج أي كميات من المناطق الخاضعة لسيطرتها، سواء كتهريب إلى مناطق سيطرة النظام أو قسد، أو إلى تركيا، بالإضافة إلى عدم توفر إمكانية التخزين لدى الحكومة المؤقتة حالياً.
وهنا يقول المهندس عرفان داديخي، المسؤول في مؤسسة الحبوب "إن إمكانيات المؤسسة محدودة ولا يمكنها شراء كامل المحصول، لكنها لا تدخر جهداً من أجل توجيه كل ميزانيتها المحدودة لشراء أكبر كمية ممكنة".
ويضيف في حديث مع "أورينت نت": “مجموع ما تخطط لشرائه المؤسسة هذا العام هو 20 ألف طن، أما الطموح فنسعى مستقبلاً لتأمين كامل احتياجات منطقتي درع الفرات ونبع السلام من القمح والمُقدّرة ب 200 ألف طن سنوياً”.
وعليه، فإن مساهمة المؤسسة في تأمين الاحتياجات المحلية من المادة تتراوح بين 25 - 35٪ و ذلك عن طريق مشترياتها، وكذلك من القمح المقدَّم من صندوق الائتمان الدولي لإعادة إعمار سوريا.
كمؤسسة، يتابع داديخي، “فإن دورنا هو تقديم سعر متوازن يغطي تكاليف الإنتاج للمزارع، إضافة لربح يتراوح بين 25 إلى 40٪، والسعر الذي أقرته الحكومة المؤقتة لهذا الموسم يزيد على السعر العالمي بما لا يقل عن 50 دولاراً من أجل الحد من أي عمليات تهريب، كما قمنا بوضع خطط مُقنَّنة للحفاظ على القمح أطول فترة ممكنة لتعويض النقص في حال حصول أي طارئ”.
وحسب الإحصاءات الرسمية الصادرة عن مؤسسة الحبوب في الحكومة المؤقتة، فإن مجموع الإنتاج المتوقع في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني من مادة القمح لموسم ٢٠٢٢ يبلغ أكثر من ١١٦ ألف طن.
وحسب هذه الإحصاءات فإن الإنتاج المتوقع لمنطقة درع الفرات ٣٥٦١١ طناً، ورأس العين ٢٢٥٠٠ طناً، وتل ابيض ٤٤٣٤٩ طناً، وغصن الزيتون ١٤٣٨٩ طناً.
اتهامات غير واقعية؟!
وهنا يرى أحد قادة الفيلق الثالث في الجيش الوطني (الجبهة الشامية) أن مجرد الحديث عن أزمة قمح في المناطق المحررة، ووجود مشكلة تهريب أمر غير واقعي، بالنظر إلى الفائض الكبير الذي سيبقى بدون تسويق في حال اقتصرت الكميات المَبيعة على ما ستقوم الحكومة المؤقتة بشرائه، وغياب أي محفزات تدفع المهربين للاهتمام بمادة القمح.
القيادي وهو من المسؤولين عن الملف الاقتصادي في الجبهة، طلب عدم الكشف عن اسمه، نفى بشكل قاطع خلال تعليقه لـ"أورينت نت" الاتهامات التي وُجهت للفيلق الثالث بالمشاركة في أو بالتغاضي عن تهريب القمح إلى مناطق أخرى "لأنه بالأصل ليس هناك تهريب للقمح" ويرى أن المشكلة الحقيقية التي تواجهها المناطق المحررة على هذا الصعيد هي في عدم إمكانية شراء كامل الإنتاج من القمح المزارعين "الذين يبحثون عن منافذ تصريف لموسمهم، لكن حتى هذه الفرصة ليس من السهل الحصول عليها، خاصة أن تهريب المادة إلى مناطق النظام وقسد أمر غير مُجدٍ اقتصادياً بالفعل كما قال السيد وزير الاقتصاد، إذ ورغم فارق السعر النظري، إلا أنه وبسبب دفع كل منهما بالليرة وليس بالدولار، وبالنظر إلى الضرائب وتكاليف النقل ومصاريف التهريب فإن الجدوى الاقتصادية للمغامرة بنقل المادة إلى مناطق سيطرتهما، سواء بشكل رسمي أو من خلال التهريب، تصبح معدومة" كما يقول.
وعليه فإن المسؤول الاقتصادي بالجبهة الشامية يؤكد أن المزارعين يطالبون اليوم بإيجاد آليات تسويق لتصريف القمح القاسي الذي ينتَج محلياً ولا يصلح لمادة الخبز السوري، ولذلك يتم تصدير الكميات الفائضة منه من خلال المعابر الرسمية إلى تركيا، وبترخيص من الحكومة المؤقتة، مقابل استيراد كميات مماثلة أو أكبر من القمح الطري أوكراني المنشأ بالعادة، مطالباً بتظافر جهود جميع مؤسسات الثورة من أجل حل هذه المشكلة والتي يمكن بقليل من العمل المنظم أن تتحول إلى فرصة ومكسب للفلاح والحكومة المؤقتة والقطاع الخاص والمواطن.
مشكلة التخطيط
وبينما يقول قيادي الشامية إن التعامل مع هذه القضية بالتهويل الذي تم عليه، واللغط الذي أثاره، غالباً ما تقف وراءه نيّات صادقة تتخوف من حصول أي أزمة قمح في المناطق المحررة، خاصة في ضوء الهلع العالمي من حصول أزمة بسبب الحرب في أوكرانيا، يرى خبير الاقتصاد والتخطيط عبد الرحمن أنيس "أن المشكلة هي في عدم وجود مؤسسة للتخطيط الإستراتيجي لدى الحكومة المؤقتة، ما يجعل تصورها قاصراً حيال أي قضية، بما في ذلك الأمن الغذائي".
ويقول في حديث مع "أورينت نت": “لا أدري في الحقيقة مدى دقة الحديث عن وجود عمليات تهريب للقمح من المناطق المحررة إلى مناطق سيطرة النظام أو قسد أو حجم هذه الظاهرة، لكن ما أنا واثق منه أننا نعاني في هذه المناطق من غياب التخطيط الإستراتيجي وعدم وجود أي مؤسسة تُعنى بهذا الأمر، منذ إلغاء هيئة التخطيط التابعة للحكومة المؤقتة قبل أكثر من عامين”.
ويضيف: “نهاية عام ٢٠١٩ كان لدى الهيئة تمويل يتجاوز ثمانين مليون يورو من أجل وضع أربع إستراتيجيات قطاعية، تشمل الزراعة والصحة والتعليم والخدمات، لكن مع تسلم الحكومة الحالية صدر قرار بحل جميع الهيئات فيها، ما أدى إلى إلغاء عمل ودراسات هيئة التخطيط التي كان يمكن أن تسهم في عدم التعرض لأزمة كالتي تتحدث عنها الحكومة حالياً، أو في سبل معالجتها”.
بينما يؤكد الكثيرون، بمن فيهم مسؤولون في الحكومة المؤقتة والمؤسسات التابعة لها، وجود عمليات تهريب واسعة النطاق لمادة القمح المنتجة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، تأتي الأرقام والمعطيات لتشير إلى أن المشكلة هي في عملية شراء وتسويق الكميات المنتجة من القمح القاسي في هذه المناطق، وسبل توفير القمح الطري المستورد، بالإضافة إلى عدم وجود إمكانيات تساعد على تخزين الكميات الفائضة، في وقت لا يبدو فيه منطقياً السماح بتصدير هذا الفائض بسبب الخشية من أن تطول الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي يهدد بالفعل سوق القمح العالمية، ما يجعل الحفاظ على الحنطة بمختلف أنواعها، وتخزينها وفق الشروط القياسية هو الأولوية.
التعليقات (1)