جنوب سورية في سياسات منظومة الأسد

جنوب سورية في سياسات منظومة الأسد

يمثل جنوب سورية أهمية خاصة لمنظومة الأسد، حيث يفرض موقعه الإستراتيجي المتداخل مع إسرائيل، وبوابة للخليج العربي، تحوّله إلى ورقة قوّة في لعبة التوازنات المعقّدة القائمة في سورية بين لاعبين متعددين، كما إن من شأن احتكار السيطرة عليه من قبل لاعب أن ينعكس على أوزان أطراف اللعبة في الصراع السوري، من هنا احتاجت روسيا إلى عقد تفاهمات معقّدة مع أطراف إقليمية ودولية لاستعادة الجنوب إلى سيطرة الأسد.

لكن، أهمية الجنوب تتأتى من كونه المنطقة الوحيدة في سورية، من بين مناطق التخوم التي يستطيع النظام إجراء المساومات عبرها لإنقاذ نظامه من السقوط وإعادة تأهيله، سواء عبر اتفاق سلام مع إسرائيل، أو من خلال مشاريع إعادة التأهيل عبر الأردن وبعض دول الخليج، ودائماً عبر استخدام سياسات الابتزاز تجاه الفاعلين المشار إليهم، إسرائيل من خلال تخويفها بالتمدد الإيراني، والأردن والخليج من خلال سلاح المخدرات والتغلغل الإيراني، ويبدو أن روسيا أدركت هذه الميزة وإمكانية توظيف جنوب سورية في سياق مساعيها لتكريس منظومة الأسد في الحكم، في تحدّ معلن للمتغيرات السياسية والأمنية التي مرّت بها سورية، وقد استطاعت فعل ذلك عبر اتفاقيات غامضة وفضفاضة مع أطراف أتعبها الاستنفار لسنوات طويلة على حدود سورية الجنوبية.

في حسابات منظومة الأسد، لا تستطيع المناطق الأخرى توليد قيم مضافة لمشروع الأسد، فالشمال بات منطقة مغلقة بوجه أي عملية تساومية لنظام الأسد، والتفاهم هناك محصور بين روسيا وتركيا، حيث تمت صناعة معادلات يصعب خرقها من قبل الجانبين، في شرق سورية الأمر بيد الأمريكيين، هامش المناورة معدوم إلى أبعد الحدود بالنسبة للنظام الذي جرب وسائل كثيرة، منها محاولة استمالة العشائر لكن خططه فشلت، أولاً لأن العشائر نفسها مشتتة بين أكثر من طرف، ولأن العشيرة بات لها أكثر من رأس، نظراً لانحيازاته ومصالحه، ومنها أيضاً اللعب على التناقضات بين العرب والأكراد، لكن العرب في شرق سورية هم في النهاية قوّة غير منظمة ولا يستطيعون التمرد على الكرد المنظّمين والمدعومين أمريكياً وحتى عربياً، كما إنه لا محفزات تدفعهم للعودة إلى حكم الأسد.

لكن، ظروف جنوب سورية لا تمنح منظومة الأسد شيكاً على بياض حتى يستطيع الاستفادة منه كورقة مساومة مهمة، فالمنطقة من السويداء إلى درعا والقنيطرة تغلي بالرفض المطلق وترفض عودة منظومة الأسد، ترفض إعادة بنائه لمنظومته العسكرية والأمنية، ويشهد على ذلك حالات الاغتيال اليومية للمتعاونين مع الأسد أو عناصر أجهزته الاستخبارية، وكذلك رفض السويداء تسليم الأسد مفاصل السيطرة على المحافظة، رغم كل ما يستخدمه من أساليب، كما إن شبكات علاقاته القديمة مع الوجهاء والعائلات الكبيرة تمزّقت ويصعب إعادة رتقها، لفقدان الثقة بمنظومة الأسد، ولأن الجرح الذي سببته المنظومة عبر عمليات القتل والإخفاء لعشرات الآلاف من أبناء المنطقة تجعل من الصعب على أحد القبول بإقامة علاقة جديدة مع هذه المنظومة المجرمة والفاسدة.

في جنوب سورية يعجز الأسد عن التأثير بالواقع، أو تجييره لصالحه، هو، رغم كل ما يبذله من جهد، ليس سوى طرف بين أطراف عديدة، في السويداء عبارة عن ميليشيات، بعضها يحظى بدعم شعبي وازن، مثل "رجال الكرامة" و"حزب اللواء" وفي درعا، وإن لم يعد ثمة وجود لفصائل مهيكلة ومؤطّرة، إلا أن الرفض والمقاومة يعبّران عن رأي عام شعبي ويلقيان دعماً واسعاً من أبناء المحافظة الذين يرفضون سياسة الاستعلاء التي تمارسها منظومة الأسد، ولا يقتنعون بسردية الانتصار على الإرهاب التي تتمسك بها المنظومة، يدركون تماماً أن الإرهاب الذي تقصده المنظومة ليس سوى مطالب أبنائهم بالكرامة والتي كان نتيجتها اغتيال هؤلاء الأبناء بغدر وخسّة.

وبدلاً من استخدام الجنوب كورقة لمساومة وتثقيل الأوزان، تدخل منظومة الأسد في حرب استنزاف يومية في جنوب سورية وأمام هذا الواقع تتبع خليطاً من السياسات التخريبية بهدف استعادة المكانة والسيطرة مثل:

- إفراغ الجنوب من الشباب ما أمكن، فاستعادة الهيمنة باتت مرتبطة بشكل كبير بتهجير جيل بحاله من جنوب سورية وإفراغ المنطقة من قواها الحية، لكن هذه السياسة أثبتت فشلها على الدوام، فقد تم اتباعها منذ اليوم للثورة، عندما وضع النظام مئات آلاف الشباب على قوائم المطلوبين بهدف دفعهم للهروب، ورغم خروج أعداد كبيرة بالفعل، واختلال الميزان السكاني بدرجة ما، إلا أن التركيبة السكانية السورية تعاند سياسات الأسد على الدوام، حيث يحتل الشباب، ومن هم على أعتاب مرحلة الشباب الشريحة الأكبر في الهيكلية السكانية، ما يجعل منظومة الأسد وكأنها تحارب طواحين الهواء، وتستنزفها صيرورة سكانية يستحيل وقفها.

- تدمير مجتمعات الجنوب بالمخدرات، فالمجتمع الجنوبي مجتمع عائلي محافظ ومتماسك بدرجة كبيرة، يصعب اختراقه، وليس أفضل من المخدرات وسيلة لتدمير أفراده وتحطيم أسره، لذا تم نشر شبكات تهريب المخدرات بكثافة، ورغم المقاومة التي تبديها مجتمعات الجنوب تجاه هذا الأمر، من خلال مطاردة أعضاء هذه الشبكات أو عزلهم اجتماعياً، إلا أن المنظومة التي تعرف حجم الأزمة الاقتصادية التي تعانيها المجتمعات المحلية، تحقق نجاحاً إلى حدّ ما.

- الفتنة، وخاصة في السويداء، التي تحتضن مكونين مختلفين، دروزاً وسنّة، أو بين درعا والسويداء من خلال دفع بعض التشكيلات المرتبطة به القيام بعمليات خطف وقتل أحياناً، ورغم وعي مجتمعات الجنوب لهذه السياسة، فإن منظومة الأسد لا تكلّ عن وضع  جنوب سورية بشكل دائم على حافة صراع أهلي خطير، والهدف من وراء ذلك إخضاع جناحي الجنوب، درعا والسويداء.

لا يوجد مؤشرات على احتمال نجاح سياسات الأسد في تغيير اتجاهات الرأي في جنوب سورية وإعادة تشكيل بيئة صديقة، على العكس من ذلك، تعمل سياسات المنظومة على تغذية القناعات باستمرار نبذها ومقاومتها من قبل المجتمعات المحلية، والأرجح، بقاء منطقة الجنوب شوكة في خاصرة منظومة الأسد ما لم تحصل تغيرات سياسية ملموسة، وهو ما يتوجب على المعارضة السورية التقاطه والبحث عن طرائق تساعد على تعزيز صمود ومقاومة السكان في هذه المنطقة.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات