على الرغم من مصادقة لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وإقرار تشريعات رسمية ضد التعذيب، إلا أن الشهادات التي يُدلي بها معتقلون سوريون سابقون تُظهر أنّ التعذيب في مراكز الاعتقال اللبنانية ركيزة أساسية وهي الثقافة السائدة التي تلجأ إليها الأجهزة الأمنية لانتزاع اعترافات ملفّقة ولا أساس لها من الصحة.
وفي هذا الإطار نشر موقع "سوريا على طول" تقريراً للصحفية الإسبانية "أليثيا مدينا" روى قصصاً للاجئين سوريين تعرّضوا للتعذيب الوحشي بعد اعتقالهم على يد عناصر الأمن اللبناني، مشيراً إلى أنه في عام 2019 داهم عناصر الأمن منزل سوري يدعى تيم “بالخطأ”، إذ لم يكن الشخص الذي يبحثون عنه لكنهم أخذوه مع جاره.
وقال تيم (اسم مستعار) إنه بدأت المعاملة الوحشية منذ لحظة اقتياده إلى أحد مراكز الاعتقال في بيروت، وتعرض للضرب 9 أيام متوالية، وحين اعتقل عناصر الأمن ابنه، لم يعد أمامه سوى الاستسلام لأوامرهم. “عندما ضربوا ابني أمامي أخبرتهم أن يدوِّنوا ما يشاؤون من اعترافات”، فوجّه الأمن اللبناني له تهمة التورط بالإرهاب، والانتساب للجيش الحر.
وجرى التحقيق مع "تيم" من دون حضور محامٍ، وأُجبر على التوقيع على اعترافاته تحت التعذيب، وهو ما حصل مع معتقلين سابقين تعرضوا لتصرفات مشابهة على يد قوات الأمن اللبناني، وأدّت هذه الممارسات مع غياب الرغبة بإنفاذ القانون وتطبيق التشريعات الحالية المناهضة للتعذيب والتحقيق في قضايا التعذيب، إلى خلق مناخ من الإفلات من العقاب، على حدّ وصف محامين.
وبعد الاعترافات التي أدلى بها تيم، أُفرِج عن ابنه، ومثل تيم أمام محكمة عسكرية، وكشف عن الكدمات في أنحاء جسده أمام القاضي، وأخبره: “هذا جسمي بعد سبعة أيام من الاعتقال، يمكنك أن ترى آثار الضرب”، وأضاف: “لقد عذّبوا ابني على مرأى عيني، فماذا كان يمكنني أن أفعل؟”، مستدركاً: “”لا يوجد لنا حقوق نحن في لبنان”.
أُودِع تيم في السجن لعدة أشهر إلى أن أُطلق سراحه في السنة الماضية بعد أن بيّن محاميه أنه اعتُقل خطأً لدى مداهمة منزله في عام 2019.
"تيم" هو أحد الناجين من التعذيب الذين ساندهم مركز نسيم، التابع للمركز اللبناني لحقوق الإنسان (CLDH)، ومقره بيروت، الذي يُعنى بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني لضحايا التعذيب وعائلاتهم.
ضربوني بعصا فولاذية
وفي قصة تعذيب أخرى طالت طفلاً سورياً في لبنان، تحدثت كاتبة التقرير عن الطفل جواد (اسم مستعار) الذي لاذ وأهله بالفرار من سوريا عام 2012، واعتُقل في عام 2017 لمدة 52 يوماً إثر مشادة وقعت بنادٍ ليلي في لبنان، ولم يبلغ حينها السن القانونية، وخلال الاعتقال صعقه الضابط بالكهرباء على ذراعه وضربه بعصا فولاذية وفتح جرحاً بيده، ولم يُسمح له بمراجعة طبيب.
وبعد الإفراج عنه، لم يفكر جواد في رفع شكوى على سوء معاملته وتعذيبه، وتساءل ضاحكاً: “إلى من أشتكي؟ الدولة؟!”.
وفي عام 2019، قرر "جواد" العودة إلى مسقط رأسه في سوريا للحصول على بعض الوثائق الرسمية، متجاهلاً مخاطر العودة إلى هناك، ولا سيما لمن هم في سن التجنيد، وفور عبور الحدود اعتُقل وعُذّب ثلاثة أشهر في أحد مراكز الاعتقال في سوريا، حيث كُسِرت ثلاثةً من أضلاعه، بحسب قوله، وتم سوقه لأداء الخدمة العسكرية بصفوف ميليشيا أسد، لكن بعد عامٍ من الخدمة تمكن من الفرار والعودة إلى لبنان بطريقة غير نظامية.
واعتُقل جواد مرةً ثانية لفترة وجيزة، العام الماضي، عقب شجارٍ في الشارع، لكن في هذه المرة زارته محامية مرسلة من قبل مفوضية شؤون اللاجئين، إلا أنها لم تقم بالكثير، بحسب قوله، إذ تكلمت معه على عجل “أخبرتني أنها لم تتمكن من مساعدتي، ثم غادرت”.
وأُفرِج عن جواد، لكنه لم يستعد حريته على وجهها الأكمل، على حد قوله، “إن اعتقلوني في الشارع، فسيقومون بترحيلي، وإن عدت إلى سوريا، فالحكم بالسجن لسبع سنواتٍ بانتظاري نظراً لفراري من الخدمة العسكرية".
اعترافات بقتل جندي لبناني
وذكرت كاتبة التقرير أنه في عام 2015، اعتُقل بلال (اسم مستعار) أثناء محاولته الفرار إلى تركيا، عبر مطار بيروت، للانضمام إلى عائلته هناك، وهو مقاتل سابق في صفوف جبهة النصرة.
وفي صيف عام 2014، اندلعت اشتباكات بين الجيش اللبناني وحزب الله مع مقاتلي تنظيم داعش وجبهة النصرة في منطقة عرسال، ما أدى إلى مقتل 69 من المدنيين والمقاتلين والجنود.
وبعد اعتقال بلال، اعترف أنه انضمّ إلى جبهة النصرة، لكنه نفى تورّطه بالهجوم ضد الجيش اللبناني في عرسال، وخلال التحقيق تم تعذيبه قائلاً: “أجبروني على الوقوف 24 ساعة متواصلة وضربوني، وعلّقوني بوضعية البلانكو، وكانوا يتبعون الروتين ذاته يضربونني حتى أنزف ومن ثم يتوقفون”.
وبعد 5 أيام أمضى على اعترافٍ بقتل جندي لبناني لأنه لم يعد يحتمل مزيداً من التعذيب. وفي المحكمة العسكرية، أخبر القاضي بأن اعترافاته انتُزعت تحت التعذيب، ومع ذلك، حُكم عليه بالإعدام، ولأن لبنان أوقف تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو غير رسمي، يتحوّل الحكم إلى سجن مؤبد.
ومنذ سبع سنوات يقضي بلال محكوميته في سجن رومية، وفور إيداعه السجن أخذه فرع أمني لمزيد من الاستجواب، كما قال في حديثه عبر الهاتف من داخل السجن، مضيفاً: أنه حصل على تقرير طبي من الأطباء في السجن يوثق تعرضه للضرب، وقدم شكوى بناء على التقرير، لكن بعد علم الفرع الأمني بالشكوى أبرحه ضرباً، فلم يشتكِ بعدها.
وأكد التقرير أن قصص التعذيب التي سردها ليست سوى غيض من فيض، حيث أسفرت سنوات من الإفلات من العقاب عن انتشار ثقافة التعذيب في المعتقلات اللبنانية، ومع أنّ التعذيب قد يطال أي شخص في لبنان إلا أن أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان تجعلهم من أكثر الفئات عرضة للتنكيل وسوء المعاملة في حال اعتقالهم من قبل السلطات.
التعليقات (7)