مذكّرات "إلى حبيبتي الصغيرة" عندما تصبح الرسالة أُمنيةً في معتقلات نظام أسد

مذكّرات "إلى حبيبتي الصغيرة" عندما تصبح الرسالة أُمنيةً في معتقلات نظام أسد

صدرت مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر مجموعة مذكّرات بعنوان "إلى حبيبتي الصغيرة" والتي اشترك في كتابتها كلٌّ من "عمر فرج" و"هناء الفقير". تتحدث المجموعة عن تجربة الأول مع الاعتقال، حيث ابتعد فيها الكاتبان عن النمط التقليدي لما يسمى "أدب السجون" فاختارا أدب الرسائل مقصداً في إيصال المعاناة.  

وعن سبب انحيازهما نحو هذا النوع الأدبي بالذات، يجيبان لموقع أورينت نت: 

"لأن كل معتقل، وخصوصاً في بلدان الاستبداد؛ تكون أقصى أمنياته لو يستطيع إرسال ولو رسالة واحدة إلى أحبابه، وهذه الرسائل كان عمر يودّ أن يرسلها، وظلت أُمنية إلى أن تحققت الآن، ومن جانب آخر يعتبر أدب الرسائل؛ الأسهل وصولًا والأقرب إلى المتلقّي".

يتضمن الكتاب مجموعة من الرسائل تبدأ معظمها بمخاطب "حبيبتي الصغيرة"، وقد يكون في هذه الجملة نوع من الرمزية أو الإيهام لتأويلها بأكثر من معنى، فربما تكون هذه الحبيبة، هي العشيقة، أو الزوجة، أو الابنة، وربما تكون أيضاً المدينة والموطن، وربما تكون الحرية التي ينشدها المعتقل.. كما تتضمن الرسائل وصفاً حكائياً متميزاً عن غير عادة كتّاب هذا النوع الأدبي الذين يميلون نحو الوصف التصويري أكثر، يسرد فيه الكاتبان المعاناة بلغة تتراوح بين الشاعرية الرمزية، والقصصية... 

وقد أضفيا حسّاً فلسفياً على النصوص، بعيداً عن الفلسفة المعقدة، قريباً من الفلسفة اليومية، فتتدرج مثلًا نفس المعتقل بين القناعة بمصيره أحياناً، إلى القدرة على التغيير، ثم الانكسار والاستسلام، فالهرب من الوطن الذي تحوّل من حامٍ لأبنائه إلى كائن مفترس لهم.

"خلال الأيام التي قضيتها داخل السجن ثمة ما أعاد رسم الثورة في داخلي مجدداً، في كل يوم كان جزء مني يزداد حدة وثقة بما أملك. قبل أن يعتقلوني للمرة الأولى كنت أعتقد أنني ورفاقي مجرد أشياء صغيرة بلا أهمية، لكنني في اللحظة التي وضعت بها قدمي خارج المعتقل فهمت أننا سكين لا يغلبها أحد، صدقيني المشكلة كلها كانت أننا لم نكن نعرف قوة يد الحقيقة التي نملكها فظللنا خائفين من أن نجثو على ركبتينا في أي لحظة."

وعن اشتراك "عمر وهناء" في كتابة هذا العمل، ودور الأخيرة في توثيق اعتقال صديقها يقولان:

"إن مشاركة تجربة مؤلمة خاضها الإنسان ليس بالأمر السهل، كأن تمسك ورقة وقلماً وتمتلك بضع ساعات وتدوّن، خلال كتابتي أنا وعمر للشهادة أولًا احتجنا للتوقف أسابيع أو لقطع جلسات من منتصفها؛ لأن المحتوى الذي نعمل عليه هو ذاكرة أحد منا، وهذا الأمر قاسٍ... شهادة الذاكرة واحدة من أهم الطرق لحفظ التاريخ، وشجاعة مشاركة الحكاية رغم كل العقبات خلال رحلة التوثيق وما بعدها، كانت شكلًا آخر من قول "لا" في وجه الظلم والظالم."

ولم يتجنب العمل الخوض في تفاصيل الاعتقال والتعذيب وتلفيق التهم التي اعتاد مجرمو نظام أسد إنتاجها في المعتقلات، بل وأيضاً خاض في تفاصيل ربما لم يتطرق إليها أحد من قبله، على الرغم من أنها قد تسبب تشكيل عادات جديدة في حياة المعتقل بعد خروجه..

"أتدرين ما الأمر المخيف حقًا؟ كنت في مقهى مع صديقي الأسبوع الماضي واستأذنت لاستخدام الحمام وفور عودتي سألني: أبهذه السرعة؟! إنها واحدة من العادات التي دسّها الخوف في طباعي دون أن ألاحظ."

وهنا تقول "هناء الفقير" لموقع أورينت نت:

"اضطررت للعب أكثر من دور خلال الكتابة، ولكن بالنسبة إليّ كان أهم دور هو احتواء ذاكرة عمر وكل ردات فعله رغم صعوبة كليهما".

وربما من النادر أن يطلعنا معتقل سابق عن أكبر ذنوبه والتي لا يمكن أن يغفر لنفسه بسببها ألا وهي الوشاية بأحد أصدقائه والتي لا يقوم بها إلا عندما يرزح تحت ضغط التحقيق غير المحتمل وبالأخص حين يكون عليه الاختيار بين أهله وأصدقائه. وهذا ما وجدناه واقعاً موثقاً في رسائل "إلى حبيبتي الصغيرة" ومن المؤكد أنه لن يكون وصمة عار تلاحق المعتقل، بل هي شهادة عجز كثير من المعتقلين عن البوح بها، وفيها يتجلى السلوك البشري بوضوح بعيداً عن التجميل والاختباء خلف شعارات الكمال.

عادة ما نقرأ عن اعتقال النساء وما يحدث لهن من أفواه النساء ذاتهن، ولكنّ الكاتب بيّن لنا هنا وقع ذلك على نفوس الرجال المعتقلين وربما يستخدم الجلادون هذه الوسيلة عن قصد لإضعاف شوكة المعتقلين وصولاً إلى كسرها في حين أنهم - المعتقلون - يشعرون بالخزي لانعدام مقدرتهم على الدفاع عن هؤلاء النسوة. 

“نظرت من حولي، كان هنالك رجال تبكي ورجال بوجوه جافلة، دفنت رأسي في ركبتي وأغمضت عينيّ، وصدى صراخها يتكرر في رأسي دون توقف… لا ترد أمامي كلمة اغتصاب، اعتداء، انتهاك، حقوق المرأة، عجز، إلّا واندلع صوتها في رأسي من جديد. هذه هي الدماء التي لن تُغفر إذن”.

الحياة ما بعد المعتقل: 

يخرج الكاتب وهو يحمل أمراضاً جسدية ونفسية، الجسدية تشفى بعد حين ولكن النفسية تلازمه ما دام على قيد الحياة. لا يستوعب معنى الحياة بحرية، فنمط الحياة الذي اعتاده خلال أيام اعتقاله يسيطر على عاداته اليومية والتي لا يستطيع مَنْ حوله فهمها أو تبريرها. 

"أقسّم الطعام إلى أجزاء صغيرة، يثير الأمر حيرة من حولي، هم لا يدركون أنني لا أستطيع أن أتناول وجبةً بشكلٍ منتظم.. وأنّ كل ما في الأمر هو أنني اعتدت أن أقتصر في الأشياء.. وإلّا فإنني قد لا أجد ما أقتات عليه غداً".

وأخيراً، نستطيع القول إن رسائل "إلى حبيبتي الصغيرة" استطاعت المراوحة بين أكثر من جنس أدبي، ووصلت إلى متلقّيها بأشكال عدة، فهي شهادة، وتوثيق للتاريخ الذي يتشكل على مثل هذه الأعمال، وهي في الوقت نفسه نص سردي يحرك خوالج الروح ويشكل حالة من التعاطف مع شخوصه، وفي النهاية هي حالة تشاركية في الماضي والحاضر والمصير.

يختتم الكاتبان كتابهما بمجموعة نصوص نثرية من وحي الخوف والعزلة نورد هنا أحد تلك النصوص: 

حبيبتي الصغيرة

ها أنا أقف بين مخالب التنين

بعينين جامدتين

أرى كل شيء بلون أحمر

هذا الخوف والألم

معدتي تؤلمني

لا أعرف كيف أعدّ خطواتي نحو الهاوية

ربما أكملها زاحفاً

أشواك الكذب ملأت الطريق

وضعت عند كل شوكة صورة للفتاة التي أحبها

خمسمائة وثمانٍ وثلاثين شوكة

ثم غرزتها كلها في صدري

لقد خلقني الله بدم شفاف

لم يرَ أحد دمي

داسوه

ولوثوا أحذيتهم به

ثم امتلأت كل الطرقات بدمي

لكنّ أحداً لم يره

صليت أن تريه أنت

علك تضمدين الجرح

وتجمعين دمي كله

علني أنجو

عن الكتاب والمؤلفَين:

صدر كتاب (إلى حبيبتي الصغيرة) عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا، وقد جاء في 135 صفحة من القطع المتوسط.

هناء الفقير:

كاتبة شابة مهتمة بالتجارب الإنسانية وآثارها النفسية.

عمر فرج:

معتقل سابق، كاتب ومؤرشف في تأريخ الشأن السوري.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات