تجربة طبيب نفسي عاشها مع بقية السوريين: هل نحن صادقون في شكوانا من الغربة؟!

تجربة طبيب نفسي عاشها مع بقية السوريين: هل نحن صادقون في شكوانا من الغربة؟!

من الصعب جداً كتابة مقالة عن الغربة، أحاول جاهداً أن أكون فيها مهنياً أو علمياً بناء على تجربة ذاتية، صبغت أهم أجزاء حياتي منذ دخولي العقد الرابع حتى أبواب توديعه، تجربة لم أكن مهيّئاً لها نفسياً، ولم تخطر يوماً على بالي، بالرغم من بعض الهواجس التي كانت تراودني بين فترة و أخرى عن السفر والرحيل (خاصة في لحظات الضيق في سوريا الأسد)، لكن غالباً ما ارتبطت هذه الكلمة بالآخر الذي يخوضها، والذي أقاسمه معاناتها(أتكلم هنا عن تجربة غربة العراقيين القادمين إلى دمشق بعد الهجوم الأمريكي على العراق)، لتجرفني التجربة ذاتها وأعيشها كمغترب وطبيب نفسي للكثير من المغتربين، ولتشاء الظروف أن أعمل في إحدى ضواحي باريس ذات الغالبية المهاجرة  (الهندية، والسريلانكية، والإفريقية خاصة) فتتعمق خبرتي مع هذه التجربة ويزداد وعيي بجوانبها المختلفة.

دعوة من الإمام الشافعي!

لكن و قبل الحديث عن الجوانب النفسية لهذه التجربة، أود أن أشارككم بعض أبيات الإمام الشافعي، المرتحل الدائم، والعاشق للسفر، ربما تشكلُ مدخلاً جيداً لما أود أن أقوله:

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدب

مِنْ رَاحَةٍ، فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ

سافرْ تجدْ عوضاً عمَّن تفارقُهُ

وَانْصَبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسدُهُ

إِنْ سَالَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

والأسْدُ لولا فراقُ الأرضِ ما افْترستْ

والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصبِ

والشمسُ لو وقفتْ في الفلكِ دائمة

لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ

و البدرُ لولا أفولٌ منه ما نظرتْ

إليه في كلِ حينٍ عينُ مرتقبِ

والتَّبْرُ كالتُّرْبَ مُلْقَى في أَمَاكِنِهِ

والعودُ في أرضِهِ نوعٌ من الحطبِ

فإنْ تغرَّبَ هذا عزَّ مطلبُهُ

وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ

فتجربة الاغتراب، رغم ما علق بهذه الكلمة من معانٍ سلبية، ترتبط غالباً بالحزن والأسى والحنين للبلد، فهي لا تعكس بالضرورة الحالة النفسية العامة للمغترب؛ بل غالباً ما يعيش المغترب حياته سعيداً، وخاصة حين يحالفه الحظ، وتفتح له أبواب البلد المضيف، ويحقق نجاحاً علمياً أو مادياً أو أدبياً

كل انتقال هو ولادة

لكن، ما هو سبب هذا الربط بين الغربة والحزن؟

بالـتأكيد، ترك أي مكان يألفه الإنسان، يشكل نوعاً من الولادة الجديدة له، فكل خروج هو ولادة، وكل انتقال بين مكانين أو حالتين هو ولادة، فالزواج ولادة، الطلاق ولادة، لحظة الحب ولادة، الموت ولادة، بل تغيير مكان السكن ولادة.

أليست الولادة بمعناها المجرد هي خروج الإنسان من رحم والدته إلى الحياة، وتركه لكل ذكريات الرحم، ليعيش (صدمة الولادة) على حسب تعبير المحلل النفسي أوتو رانك؟

فكل انتقال هو ولادة، وكل ولادة صدمة، وكل صدمة يرافقها بكاء وحنين لمكان السكن الأول.

لكن و رغم هذه الصدمة، يبقى الخروج من الرحم أفضل، ولا بأس من بعض البكاء، من إحساس بالتخللي، بالوحدة، وبالخوف من عدم القدرة على مواجهة هذا العالم بعيداً عن رحم العائلة والأصدقاء ( إن وجدوا ) ، من خوض تجربة جديدة على وعينا، فيها جانب الخوف، وجانب الإثارة.

لكن الصدمة تحمل دوماً تثبتاً نكوصياً، أي رغبة في العودة إلى ما قبل مرحلة الصدمة، لذلك لا يجد الإنسان القلِق والخائف إلا وضعية الجنين ليشعر ببعض الأمان بحالة نكوصية إلى المرحلة الرحمية.

و بالرغم من كل التقدم الحضاري الذي بناه الإنسان منذ لحظة وعيه على وجه هذه الأرض، لكنه يشعر دائماً بالرغبة للرجوع إلى الوراء، وإلا ما هو حلم جنة عدن سوى حلم ما قبل لحظة الولادة الأولى؟ ورغبة دفينة لمكان (حتى لو متخيل) أشبه بالرحم، يمدنا به ( الله -الأم) بغذائنا دون عناء؟

فالغربة ولادة قد تكون قيصيرية، قد تكون عسيرة، وربما تمر بسهولة ويسر، لكن لابد من الآلام، ولابد من بكاء، ولابد من نكوص

متى نعيش لحظة النكوص هذه؟

مع كل لحظة أسى ثمة نكوص، مع كل تجربة فشل ثمة نكوص، هذا النكوص غير مرتبط بالمكان أو السفر بل بالحالة النفسية، فحتى الإنسان الذي لم يتزحزح عن مكان ولادته شبراً واحداً، يعيش هذا النكوص، لكن بحالته الزمانية (من زمان كلشي كان أحلى ، زمن جدي وجدك، الزمن الجميل) مع أننا لو تأملنا هذا الزمن الجميل، زمن جدي و جدك، لربما أدركنا أنه كان أسوأ من زماننا، لكنها حاجات النفس الإنسانية، فهل يعني أن الإنسان يكذب، أو يزور التاريخ ، أو يعاني من وعي مضطرب؟

بالتأكيد لا، لا يكذب، بل "يُخرج سينماه الخاصة" على حد قول عالم العصبيات الفرنسي ليونيل نقاشاً، في كتابه (السينما الداخلية)، فكل إنسان مخرج أفلام، لكنه مخرج لسينماه الخاصة، مادتها الأولية ماضيه وذاكرته، يشكل من هذا الماضي فيلماً سينمائياً فيه كل الحقيقة، لكن فيه أيضاً كل ما في صناعة الفيلم من تجميل، مونتاج وحذف بعض المقاطع، موسيقى تصويرية، ولا بأس من بعض الإضافات.

فذاكرتنا ليست بسيطة وساذجة، بل هي مبدعة، ولكل إنسان فيلمه الخاص الذي أخرجه بنفسه، ليضفي على ماضيه والصور التي يختزنها عقله بعض الجمال، وقد لاحظ هذه الظاهرة (وإن كان بشكل مبهم) الكثير من السوريين المقيمين بأوروبا، حين يتذكرون بلد الإقامة السابق على قدومهم إلى مكانهم الجديد( مصر، الأردن، تركيا، اليونان)، فيسترجعون ذكريات تلك البلدان، بحميمية تقترب من حميمة سوريا نفسها، و أتذكر حالة شاب سوري مقيم بألمانيا، كيف ابتسم وانشرحت أساريره حين علم أني زرت أثينا منذ عدة شهور، فبدأ الكلام عن أحياء و شوارع تلك المدينة وكأنه يتكلم عن دمشق، وحالة أخرى لطبيب سوري التقيت به في شمال فرنسا، وقد عمل سابقاً عدة سنوات في ستراسبورغ شرق فرنسا، فتحدث عن ستراسبورغ بكل حنين، وكأنها كانت موطن ولادته، وهنا سأسمح لنفسي ببعض التجاوز، لأقول إن كل أماكننا التي (قبل) تتحول نفسياً، إلى أوطان فيما (بعد)

حلوة يا بلدي!

فذاكرة الأوطان أشبه بفيلم سينمائي أخرجناه بأنفسنا، فـ"حلوة يا بلدي" معك كل الحق يا داليدا صاحبة تلك الأغنية الشهيرة في الذاكرة، بلدك في سينماك الخاصة حلوة جداً، ربما عشتِ بها، كبلد (جوستين) و(لورنس داريل)، لكنها لم تعد هي، ربما لهذا عادت داليدا إلى مصر قبيل انتحارها، لتبحث عن سلوى أخيرة غير موجودة إلا في سينما داليدا التي يخنزنها عقلها.

فمكان ولادتنا ووطننا الحقيقي كما تقول مارغريت يورسنار "هو المكان الذي نلقي فيه للمرة الأولى نظرة ثاقبة على أنفسنا"، فكل مكان استطعت أن تفهم به نفسك أكثر، أن تحقق به ذاتك أكثر، هو مكان ولادتك، مع الاحتفاظ التام بكل جماليات ما صنعناه من سينما حول ماضينا..... هي لعبة الذاكرة، سنلجأ لها حتماً في لحظات اليأس، وستكون أشبه بالملجأ الخيالي، لنسرح بها بعض الوقت عن الواقع. لكننا سنكون مشغولين بتصوير لحظتنا الحالية في أوقات الفرح والبهجة، وسنضع النوستالجيا في درج خاص في عقلنا، سنحتاج أن نشاهده يوماً ما، كحاجتنا أحيانا إلى ألبوم صور الماضي... لكن لا يعني أن ما في الألبوم أجمل مما نعيشه، ولا تعني كل مشاهدة لألبوماتنا، أننا نرغب حقاً في العودة إلى ماضينا.

التعليقات (1)

    Anas

    ·منذ سنة 8 أشهر
    ,مقالة رائعة جدا،لا فض فوك
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات