كيف درَّبنا شهر حزيران على الهزائم؟!

كيف درَّبنا شهر حزيران على الهزائم؟!

يتظاهر شهر حزيران/ يونيو في التاريخ السوري المعاصر بأنه أكثر الأشهر الشمسية إلماماً بمدلولات الهزيمة، وهي التي باتت تظهر وكأنها الطفحُ الجلدي الذي لا يفارق أسماءنا وملامحنا المستجدية للمعنى منذ نشأة دولة البعث بمعناها العقائدي والبوليسي ضمن نسختي صلاح جديد وحافظ الأسد، ثم دولة البعث بمعانها البراغماتي الضيّق ضمن نسخة بشار الأسد، والذي زوّجها زواجاً شرعياً وعلى نفقته الخاصة من اقتصاد السوق عام 2005، ثم سمح بتعدد أزواجها بعد عام 2011، فزوّجها زواجَ متعةٍ لإيران، ثم أعقبه بزواج مسيارٍ لروسيا ليضمن لها نسلاً متعدد الأعراق والمآزق، متعدد اللهجات والولاءات، نسلٌ لا يتلهّى بجمع الشعارات الكبرى من دسائس الكلمات المتقاطعة كما كان يفعل آباؤه الأوّلون، بل نسلٌ ينطق المعنى مباشرة: كل الشهور لدينا حزيران، فاختر ما شئت منها.

وحده العاشر من حزيران

الحرب التي يسميها المصريون: نكبة 67، هي الحرب ذاتها التي يسميها السوريون: نكسة حزيران، وهي التي يطلق عليها الإسرائيليون اسم: حرب الأيام الستة. في صباح العاشر من حزيران/ يونيو عام 1967 كان صوت حافظ الأسد يعلن بهدوء وحكمة سقوط القنيطرة وهضبة الجولان عبر إذاعة دمشق قبل وصول الجيش الإسرائيلي إليهما، وفي صباح العاشر من حزيران/ يونيو عام 2000 كان صوت مروان شيخو يعلن بهدوء وحكمة موت حافظ الأسد عبر التلفزيون الرسمي للبلاد، ثم وفي وقت مبكر من صباح العاشر من حزيران/ يونيو عام 2022 كان مطار دمشق الدولي يعلن بهدوء وحكمة تلقيه قصفاً إسرائيلياً غير مسبوق برحابة صدر لا تحيد أو تخطئ.

هو العاشر من حزيران إذاً، بمصادفاته المضحكة التي رتّبها لنا بلا تكلّف، وكأنها صنعته التي لا يتقن سواها، وكأنه إذ زاولها صار رمزاً سياسياً يصلح استخدامه للهزيمة، ثم استخدامه لأزمة الحكم ونكرانها، ثم إعادة استخدامه للهزيمة مجدداً، بعدها أصبح رمزاً استقرائيّاً لبيع البلاد أولاً في سوق التجزئة قطعةً قطعة، ثم في سوق الجملة، كلّ البلاد معاً.

فكم من مرةٍ سنخسر فيها سوريا لنعيد تدريب الهزيمة على هزيمتنا مجدداً، ربما منذ استعاروا أغنية وديع الصافي "خضرا يا بلادي خضرا ورزقك فوار" وألصقوها عنوةً على شارة برنامج تلفزيوني لم يكن يتابعه أحد، واسمه "أرضنا الخضراء"، وصولاً إلى امتلاكنا البطاقة الذكية، وخالد العبود كليهما معاً.

حزيران الهزيمة استيقظت

سيرتنا نحن السوريين سيرةٌ حزيرانيّة، فيها تكرارُ متوالية النكسة، ثم أزمة الحكم، ثم النكسة مجدداً على مقام الحجاز الحزين، ولا نتّكلُ على أحدٍ ليروي لنا ذلك، فنحن أدرى كيف طارت مزقةٌ من البلاد أولاً إلى إسرائيل، ومزقةٌ أخرى ثم مزقتان طارتا إلى تركيا، ثم مزقةُ الأكراد التي طارت وهي الأكبر والأكثر اكتنازاً، وما تبقى من الثوب جاء ملائماً للمقاس الروسي والإيراني فارتدياه بلا تلكؤ.

كنّا نتفرج على سيرة حزب البعث، ولا نملُّ خرابَ السيرة، وكيف صار الدولةَ، ثم كيف صار شخصٌ بعينه هو الحزب والدولة معاً، ثم صرنا نتفرج على سيرة عصابة، ولا نمل خراب السيرة أيضاً، وكيف صارت العصابة هي الدولة، وكيف صرنا نحن أسرى لديها أو مخطوفين.

وكنّا نسمي نكستنا الكروية "محطاتٍ رياضية" ونترك لعدنان بوظو مهمة إحصاء الأهداف التي تدخل مرمى الصمود والتصدي بالهجمات المرتدة، ثم صرنا نقبل عزف النشيد الإيراني بدلاً من النشيد السوري في "محطات كروية" أكثر حداثةً وإشراقاً، كما في مباراة سوريا وكازخستان لكرة السلة أثناء تصفيات كأس العالم أواخر العام الماضي، ونعتبره تجديداً عبقرياً في فكر الحزب القائد.          

لكن لم يختلف كثيراً مذاق النكسة الحزيرانيّة بين مطبخي الأب وابنه، فهي نكسةٌ ممتدةٌ ومستبدة، تلائم مأزقنا الوجودي الممتد والمستبد أيضاً، فلا فرق يُحسب هنا بين برنامج "وين" لرسائل المازوت والغاز والغائط، وبرنامج "ما يطلبه الجمهور" الذي كانت "ماريا ديب" تعطف على رسائله كما لو أنها آخر رجاءات مرسليها.

لا فرق بين جدول أعمال حزيران الأب، وجدول أعمال حزيران الابن، كلاهما نكسة. هناك كانت المؤسسة العامة للمطاحن شقيقةَ المؤسسة العامة للدواجن، وهنا صارت الحسينية شقيقةَ "كورس" في اللغة الروسية للمبتدئين. هناك كانت إسرائيل تقصف أهدافاً في غزة وجنوب لبنان، وهنا صارت إسرائيل تقصف أهدافاً في دمشق وجنوب دمشق كلما شاءت، فالأشهر لدينا جميعها حزيران، وما علينا سوى الاختيار بينها كلما شئنا.

 

      

       

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات