إرهاب الحرب.. إرهاب الرغيف.. إرهاب القصيدة!

إرهاب الحرب.. إرهاب الرغيف.. إرهاب القصيدة!

أنا المواطن ريموت كونترول. المواطن الشبح، مع أن وزني تجاوز خلال بعض سنوات التخمة السبعين كيلو غراماً. مولود هناك،.. وأنتمي إلى هنا وهناك. أظنّ نفسي من الدرجة الأولى،.. ومواطنو الدرجة الأولى يقولون إنني وأمثالي من الدرجة العشرين.

تعلمت باكراً الركض بين البيت والعمل،.. تعلمت الوقوف في الطابور،.. الطأطأة أمام مسؤول الرواتب، والبقّال، واللحّام والبوّاب حتى. تعلمتُ التدفيش والتطنيش، كي أعيش مرتاح البال.

نمتُ أثناء إقامتي المبكرة في بيروت في الملاجىء حين نام المواطنون أمثالي في الملاجىء،.. دفنتُ القتلى كما كان يفعل الجميع بعد كل كرنفالات القنص والتفجير!..

أخبروني أن حربهم طائفية،.. فصدّقتُهم أول الأمر،.. ثم كذّبتُهم تماماً لأني حضرت أعراساً لزيجات مختلطة الطائفة وبحضور أهل العروسين، وأنا شخصياً تزوجتُ من مسيحية وعمّدتُ طفلي في كنيسة الروم . قالوا نحن بلد ديمقراطي، وحين رأيتُهم (يقرطون) رزقنا ومستقبلنا وحريتنا، تأكدت أنهم يكذبون!

حين انتهى إرهاب الحرب، اعتقدت أننا سنعيش بسلام،.. إلى أن بدأ إرهاب الرغيف!..

أنا المواطن ريموت كونترول،.. مواطن مليء بالأزرار والأسرار أيضاً. منذ وقت بعيد فقدتُ بوصلتي،.. طفولتي في الشمال السوري المسلوب والمغيّب عن الهوية، وأعيش كهولتي في مكان ما من جبل لبنان،.. أخرج أحياناً من بيتي حذراً أن يلاحقني أحدهم بقلم سافلٍ، فيضاف إلى رصيدي الأمني المزيد من التقارير الملغومة والملفّقة.

لم أحمل طوال سنواتي التي تجاوزت الستين سلاحاً في وجه أحد، ولم أنتمِ لحزب معارض، ولم أخرج في تظاهرات الرفض،لأنني في الأصل لم أكن حاضراً في محراب بدايات الثورة، كنت خارج بلدي ولا أزال ، ومع ذلك طالتني التقارير ولا أعلم بالفعل كم من التُّهم وُجِّهت إليّ، وما مضمونها الفعلي، ولماذا أنا ممنوع من دخول بلدي، ولماذا صدرت في حقّي لغاية اليوم ملاحقات وطلبات للتحقيق تجاوزت أصابع اليدين.

وكم استغربتُ حين توسّط لي أحدهم لتبييض صفحتي أنهم طالبوا بتعويض مالي كبير يتجاوز كل الرواتب التي حصلتُ عليها طوال أكثر من 40 عاماً في العمل ما بين التعليم الثانوي والجامعي والعمل في الصحافة والتلفزيون والكتابة.. المال يمحو إذاً الخيانات ولو كانت عظمى، ما أشرفها من وطنية!.

إرهاب القصيدة! 

أتذكر أنني في بدايات التسعينات من القرن الماضي اقتادوني من بيتي بالبيجاما، وغبتُ لأيام في إحدى دوائر المخابرات من أجل قصيدة نشرتها لي مجلة لبنانية .. وبقدرة قادر نفذتُ وقتها من الغياب النهائي .. عدت إلى منزلي بعد أيام من الاستضافة غير المريحة على الإطلاق ، وفي نفسي قهر عظيم، وعلى جسدي كدمات لا تزال..

بعدها بشهور تم اقتيادي ثانية من أجل قصيدة ألقيتها على مسرح المركز الثقافي بالبلدة، وأُطلق سراحي بعد أيام، واعتُقلتُ ثالثة ، وفي المرة الرابعة طرت إلى بيروت، ومنذها، منذ أوائل التسعينات لم أعد إلى بلدي، قامت الثورة وأنا خارجها، وتشرّد إخوتي في بلاد الله الواسعة ولم ألتقِ بهم، وماتت أمي ولم أحضر دفنها..

استطاعوا عن تقصد أن يحرموني من أنني جزء من عائلة، ماهرون هم في متعة التمزيق وتدمير كل المشاعر الإنسانية النبيلة ولا يزالون .

تقارير بلا ضمير

أعرف أن الذين قاتلوا من أجل الحرية  والأرض، وماتوا،أو اغتيلوا أو دُفنوا أحياءً ، هم شهداء عند الله ، وعند الناس،.. لكن النظام الجليل يقول بأنهم إرهابيون،.. فمن أصدّق أنا،.. دموع الأرامل والأيتام ، أم السيد النظام؟!..

وأعرف أنني حين عشت كل هذه السنوات في لبنان أن إسرائيل كانت تقصفنا ولا تزال، وتغتال أرضنا وبيوتنا وناسنا وتمارس الإرهاب بكل أنواعه على اللبنانيين، لكن أمريكا، لم تدوّن اسم إسرائيل على لائحة الإرهاب، فمن أصدّق أمريكا، أم قبور قانا وصبرا وشاتيلا؟!..

كم تتشابه الأنظمة!

وإذا كنتُ حُرِمتُ من مواطنتي من أجل قصيدة قبل ما يقارب الأربعين عاماً، ثم اعتُقلت واهتزّت كل حياتي بسبب تقارير يدوِّنها موظفون صغار مأجورون لنظامٍ لا يقرأ، ولا يتقن فن التحقيق، ولا يلامس الحقيقة لأنه لا يريدها في الأصل، فكم من السوريين وعلى امتداد خمسين عاماً لنظام لم يتغيّر فقدوا حريتهم وحياتهم وعائلاتهم بسبب تقرير بلا ضمير، يصل إلى جهة أمنية بلا ضمير، لا تُتعب نفسها في معرفة الحقيقة، فتذهب أسر بأكملها نحو الدمار إما من جراء فقدان الوالد المعيل أو الأخ أو الزوج.

والسؤال الواجب طرحه كيف استطاع هذا النظام أن يشق الصف الوطني، فيوظف مواطنين في وظيفةٍ الهدف منها فقط أذيّة بقية المواطنين؟، كيف تسللوا للناس؟، وكيف اشتروا الضمائر؟، وأي طريقة اعتمدوها لغسل بعض القلوب من نبضها، وبعض الأرواح من إنسانيتها فتحول أصحابها إلى مجرد مخرّبين للبيوت؟.

ما أبشع لقب مُخبِر!.. كيف يمكن لكائن بشري أن يكون مخبراً عن كائنات بشرية تعيش معه، وأحياناً في البيت ذاته، وهو يدرك سلفاً أنه قد يقود كائناً بريئاً إلى السجن والتيه والموت، مقابل ليرات قليلة؟.. ألا يدرك هذا المأجور أنه في كثير من الأحيان وربما في أغلبها يبتدع التهم والأفكار السوداء فقط ليلبّي نزعة النظام إلى القمع والإرهاب!.

نحن ضحايا إرهاب مستمر،.. نحن شعب مرعوب وخائف يرهبه الجميع،.. ويُرهبه كل شيء،.. المسلم كما المسيحي يعيش الرعب،.. والإرهاب المعاصر بكل أوجهه يطال الجميع بلا استثناء،.. افتتاح موسم المدارس إرهاب،.. غلاء سعر الوقود إرهاب،.. القمع والصمت المفروضان علينا إرهاب،..

مَن أكثرُ عرضةً للإرهاب من مواطن ينال أجره الشهري 40 دولاراً أميركياً، وفاتورة الكهرباء تبلغ 60 دولاراً؟!..

مَن أكثر عرضة للإرهاب من مواطن سوري أو لبناني ينام جائعاً، وكل مسؤوليه يتنعمون بالرفاهية والثراء؟!..

خرجنا من دوّامة (الفلاشات) في الإذاعات المحلية،.. 

لنلتصق بفلاشات التلفزة،.. وكلما اخترقت طائرة إسرائيلية جدار الصوت في سمائنا،. ارتمينا تحت الأسرة، وقلنا عادت الحرب؟!..

إلا في أعراف بلادنا

أنا المواطن السيّئ الحظ. في كل الأعراف الدولية، الدولة مسؤولة عن مواطنيها، عن حاضرهم ومستقبلهم، أمنهم سعادتهم لقمتهم،.. إلاّ في أعراف بلادنا، كل مواطن مسؤول عن معيشته، وكذلك هو مسؤول عن خراب الآخرين وعليه أن يدفع الثمن حتى آخر لحظة من حياته.

أنا المواطن ريموت كونترول، أعترف أن بطارية روحي نفدت، وأني ما عدت صالحاً لأي شيء،.. أرقد حالياً أمام شاشة CNN، أنتظر خبراً يؤكد أن السلطة الأمريكية توصلت أخيراً إلى التفريق ما بين سورية ولبنان،.. وما بين الطالبان!

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات