صوت القهوة فوق مراقدها والناس تلتفّ حول بعضها في مضافات البدو في الجزيرة السورية، وصوت الربابة يصدح مع الشعر المنظوم باللهجة البدوية وقصص كثيرة حزينة حزناً لا تقدر عليه الجبال الشامخات، وقصص الجن والعفاريت، عالم غرائبي يدخلنا فيه الكاتب السوري محمد المطرود في عمله الروائي الأول (سلالة العجاج).
الحدث الروائي
تدور أحداث الرواية بدءاً من أرض الخيال الطفولية، حيث نشأ اليتيم في منطقة نائية حدودية تابعة لمحافظة الحسكة، اسمها جنوب الرد، مروراً بانتقاله ودراسته في مدينة الحسكة ثمَّ حلب، وصولاً إلى لجوئه إلى ألمانيا.
يتكلم المطرود “المتناهب في شخصين” على الطفل اليتيم الذي هو، ثم يكمل سيرة الطفل ويقاطعها بالحديث عن فارسٍ بدوي قرين له؛ اسمه (هدار وسم البدو)، ينام بعينٍ مفتوحة متوسّداً بارودته، وقد قُتل على يد (آل البلاش) بعد أن عشق ابنتهم (ترف) التي قُتلت أيضاً وهي عفيفة، وترف اسم علم محلّي يُطلق على الفتاة التي تجمع منتهى صفات الجمال والنضارة والرقة، حتى إنّ كثيرًا من شعراء الشعر الشعبي ما زالوا يصفون الحبيبة المتخيلة بـ “ترف”، ويكتفون بذلك:
” في قصة ترفْ، تشمخُ سيرةُ عطرها، صرَّة الجلد الصغيرة مليئة بالنَّفَل والمسك الأصلي والمَحْلَب والقرنفل، تتدلَّى من عنقها بين نهدين ككعبَيْ غزالٍ جَفل، بالهباري تتهادى على كتفيها، بالتراجي متهدلتين من أذنيها الصغيرتين على عُنُقها، بالتماعة المعدن الكريم الذهبية، بالدنين الخافت الذي يحدثه، بالثوب الطويل الموشَّى بخيوطٍ لامعةٍ في أذياله، بالزُّبون ذي الرُّدْنين الفضفاضين وهما يمنحان الغزالةَ غُنْجًا مضاعفًا، فإذا مرَّت بأرضٍ، يقول سكّانُها: (مرَّتْ من هنا الغزالةُ تَرفْ)”. [سلالة العجاج، ص62]
الملمح السوريالي وتيّار الوعي
يلجأ الكاتب في رواية (سلالة العجاج) للمزج بين العالم الواقعي والعالم السوريالي؛ يصل الحزن في العمل إلى نهاية النهاية في الحزن، القارئ ينفر من القبح ويعيد تشكيله لصالح ذائقة جمالية رفيعة، بمسه بإبداع الخيال، يعطي الحكايات الشفوية والشعر المنظوم والعادات والتقاليد، يعطيها روحاً جديدة وتسعى للتغيير عبر رؤية واستنباط الخلل والسعي نحو تغييره؛ لذا يعتمد كاتبنا على السُّوريالية في واقعية روايته السحرية.
والسوريالية في رواية (سلالة العجاج)، ترفض التسليم بما واقع وعادي ومألوف، وتضفي لمسة فارقة بما فيها من نقاء وفكرية وبكارة أشياء تعيد اكتشاف نضارتها وطزاجتها. يبحث الكاتب في قصص البدو الشفوية ويغوص في عمق الماورائيات ويرتقي ما فوق الواقع متكئاً على تقنيات تساعد على هذا المزج ما بين العالم اليومي الآني والعالم السوريالي. وأهم التقنيات التي استخدمها الكاتب كانت "تيار اللاوعي" وهو من أنماط الخطاب غير المباشر..الذي يحاول اقتباس الأشياء بلا مباشرة..بالتركيز على التدفق غير المنظّم للفكر.. ويعبّر عن كل الانطباعات والأفكار حال ولادتها ويرصد تداعياتها. مثال ذلك:تقاطع السرد بين كل من الراوي والمروي عنه حيث يترك لنا السرد فسحة للمقارنة وتكوين الانطباع في تدفق المشاعر وتضاربها لدى كل من المطرود وبطله المكنى الذئب عن قصص الحب بين الماضي والحاضر ونهايتها التراجيدية وقصص وحكايات أخرى تربط بالتاريخ وتعيد إنتاج واقعها السحري. وهكذا أفاد الكاتب من نوع هذه الرواية "الرواية البلوفونية" في رسم استقلالية الشخصيات النسبية بالقفز بالقارئ إلى عوالم الشخوص الداخلية وولوج خباياها وتعقيداتها حد التناقض. يستعين الكاتب في رواية (سلالة العجاج) بتقنية الأحلام التي تمثّل في حدّ ذاتها صورة مختزلة للواقع وهو في ذات الوقت اختزال للعلاقات الاجتماعية عبر الرموز، ذات الإحالات التي ترتبط بالواقع.
الملمح العجائبي
يمتزج في رواية (سلالة العجاج) العالم الواقعي بالعجائبي، أحد الركائز الأساسية في تيار الواقعية السحرية؛ والعجائبية هي شكل من أشكال القص، تعترض فيه الشخصيات بقوانين جديدة، تعارض قوانين الواقع التجريبي، فتقدم الرواية بعداً دلالياً يتآزر مع الواقع، يرسم الكاتب محمد المطرود،نصه بشكل موغل في البساطة والألفة، ما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل فيه:فيذكر الكاتب على سبيل المثال أسلوب حياتي فلسفي يدعمه بمقولات لكتاب كبار يعقبها برحلة أبطاله البرزخية العجائبية التي تأتي بدورها في سياق قصة واقعية لمعاناة أحد أبطاله.
الملمح الأسطوري
لا تمثل الأسطورة إحدى مفردات التراث؛ إنما هي جزء لا ينفصم عن اللاوعي الجمعي لدى الشعوب، وتشكّل الأسطورة في هذا النص واقعية أسطورية؛ فيقوم الكاتب بخلخلة هياكل الأسطورة وربطها بالواقع، ما يفتح دلالات جديدة لها، وهذا ما يُكسب النص الإبداعي تجدداً ويمنحه حياة وقوة مستمدة من الحياة الأسطورية. ويظهر الملمح الأسطوري في استجلاب مواقف تاريخية وربطها بالواقع.
الحياة البينية
يكثر في طيات النص الحديث عن البينية وكل ما يشبه المحطات، فالنص حافل بالترحال والسفر والتنقل بين جبل سنجار والمساحات المحيطة به طلباً للماء والكلأ كذلك الرحلة بين المنفى والوطن، وانعدام الاستقرار على مستوى حيوات شخوص النص. كرنفالية الفضاء؛ فيمثل الفضاء"الزمكاني "للرواية فضاء حافل بالصدمات والأزمات، ويتسم بالكرنفالية والتعددية حد التناقض، فتتنوع الأمكنة وتتحول إلى أمكنة معادية تثير الاشمئزاز والقلق والموت، بينما يكون الزمان مهدماً مفككاً. فالزمن واقع بالنسبية:على سبيل المثال يمتد عمر حكاية بطل الرواية لعقود طويلة بدأت مع قتله على يد أهل ترف؛ أكثر ما يحتفي فيه الكاتب الزمن الروائي وكأني به عارفاً للكاتب محمد المطرود بما يليق بنص واقعي سحري.
إن رواية (سلالة العجاج، هدار وسم البدو وأنا/ الساعات الإضافية) رواية تنتمي إلى تيار الواقعية السحرية ليس لكونها تتسم بملامح سحرية فانتازية وإنما لتعانق ثلاثة جوانب ترسم ملامح هذا التيار هي: السريالية والعجائبية والأسطورية. وقد نجح الكاتب مستعيناً بجنس الرواية البلوفونية التي كانت أداة طيّعة في يده تمكّنه من ارتياد الفضاءات السحرية الواقعية المتباينة؛ حتى إنه عند نهاية الرواية تتبدّى إمكانية الكاتب في التحكم، وكأن كل قصة هي رواية قائمة بحد ذاتها لها استرجاعها وتشعباتها الخاصة.
التعليقات (0)