حراس الهيكل: حراس نظام الاستبداد

حراس الهيكل: حراس نظام الاستبداد

يشير مفهوم الثقافة حسب علماء الأنثروبولوجيا، إلى نمط أو طريقة الحياة في مجتمع ما، وتشمل كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان عن نفسه والتي يشاركه بها الآخرون. فهي تشمل الأدب والفن والديانات و"الميثولوجيات" والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية وكافة مظاهر الحياة الاجتماعية. والثقافات تتلاقح؛ تأخذ وتعطي، مع الاحتفاظ بما له علاقة بالأصالة والجذور والتراث، وتتطور الثقافة بتطور المجتمعات. فلقد طورت الكثير من الشعوب الآسيوية ثقافتها من خلال تقبلها لكثير من مفردات الحضارة الغربية، لكنها في نفس الوقت حافظت على هوية خاصة تميزها عن الثقافة الغربية، ولنا في دول شرق آسيا عبرة حسنة.

فوبيا الغزو الثقافي

حول قضية الثقافة، وعبر منصة "فيسبوك" كتب أحد الأصدقاء منشوراً لافتاً للانتباه، وقد جاء في المنشور: "مشكلة الغرب أنه صاحب مشروع ثقافي، بينما المشروع الشرقي المتمثل بسياسة روسيا والصين فيمكن اختصاره بـ"استعباد الشعوب" (اللغة الأصلية فيما يخص العبارة الأخيرة كانت أكثر حدة)، ومن الواضح أن النخب لدى مجتمعاتنا تدفع الشعوب لاختيار القبول بالعبودية (000) لأن المشروع الآخر فيه تهديد لأدوات التحكم بالشعوب. إن في تخوف هؤلاء دليل واضح على أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن ثقافتهم هشة لا يمكنها أن تصمد أمام أية مناظرة". 

على ما يبدو أن القضية معروفة لدى منظّري الفكر الاستبدادي، بل هي وتر يعزف عليه هؤلاء. ففي لقاء مع المنظر الروسي الشهير "ألكسندر دوغين" يسأل الإعلامي: من الممكن أن يكون هناك الكثير من الشعوب في العالم رافضة للنموذج الأمريكي، لكن بالتأكيد هي لن تكون راضية بالنموذج الروسي؛ النموذج الذي أباد الآلاف في سوريا وفي الشيشان، والذي ينحاز دائماً للأنظمة المستبدة على حساب الشعوب. ما الذي يجعلك "دكتور ألكسندر" تعتقد أن الشعوب ستقبل بهذا النموذج الذي يراه البعض مستبداً ودموياً؟ يجيب دوغين: نحن لا نريد أن نقترح نموذجاً، أو نعوض النموذج الأمريكي بنموذجنا، ربما لن يروق لكم نموذجنا. يجب أن يروق لكم نموذجكم أنتم وقيمكم أنتم. إذن، فالقضية هي قضية تدخّل وعدم تدخل، والثقافة هي الفيصل.

ليس من العيب أن يعتز الإنسان بثقافته أو أن يتمسك بها ويدافع عنها، لكن العيب أن يصاب بـ"فوبيا الغزو الثقافي" ويجعل من ثقافته بكل مفرداتها هيكلاً مقدساً يُمنع الاقتراب منه أو المساس به، ويجعل من نفسه أحد حراس هذا الهيكل مغلقاً الباب في وجه أي محاولة لأي نوع من أنواع المراجعة أو التساؤل حول سرديات المجتمع. 

الكل جزء من الهيكل المقدس

قد يتقبل المرء فكرة رفض الخوض فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية، لكن اللافت أن كل المعتقدات الأخرى مما له علاقة بالفكر أو السياسة أو التاريخ أو العادات والتقاليد يكون رد الفعل على محاولة التساؤل حولها على نفس السوية. أي، سوية المعتقدات الدينية؛ فالكل جزء من "الهيكل المقدس"، ابتداء من المعلومات والأفكار التي تعود إلى الحقبة السوفييتية، والتي طرحت في سياق الحرب الأيديولوجية بين الاتحاد السوفييتي ومعسكره من جهة، والغرب من جهة أخرى، مروراً بجرعات التضليل الإعلامي التي يقدمها أبواق السلطة، وانتهاء بالمعلومات التي تلقيناها من كتب التاريخ الجغرافية والتربية الوطنية. وهذا الدفاع المستميت عن أفكار ومقولات أكل الزمن عليها وشرب؛ يؤدي إلى ما يمكن أن نسميه: "الترهّل الفكري"، والذي يعني أن المعلومات المخزنة في دماغ الإنسان قديمة وثابتة لا تتجدد. وهذا أخطر ما يمكن أن يتعرض له العقل البشري؛ لأنه يصبح عقلاً ضاراً مدمراً ومضللاً.

المزاودة البعثية والفراغ المعلوماتي

في محاولة لتفسير هذه الحالة؛ يرى البعض أن "حراس الهيكل" ليسوا أكثر من أفراد ترعرعوا في أحضان البعث وأدمنوا المزاودة. لذلك، هم يمارسونها كلما سنحت لهم الفرصة. والبعض الآخر يرى أن هؤلاء يقومون بردّ فعل طبيعي، فما قدمته لهم السلطة من معلومات ومعارف هي مرجعهم الوحيد. وبالتالي، فالقبول بالتشكيك بهذه المعلومات سيضعهم في مازق شديد، وفراغ معلوماتي ونفسي لا يمكن احتماله. أما الدكتور مصطفى حجازي؛ فيرى أن مقاومة التغيير إحدى الصفات النفسية للإنسان المقهور نظراً لارتباط بنيته النفسية المتخلفة ببنية مجتمعه المتخلف. وهناك رأي آخر، أصحابه أكثر قرفاً وامتعاضاً ولؤماً، فهم يرون أن حراس الهيكل هم حراس النظام، فما هذا الهيكل سوى جزء من المنظومة الفكرية والعقدية التي اعتمدها النظام واعتمد عليها لضمان بقائه واستمراره، فسخّر بعض جوانبها تارة، وروض بعض الجوانب، ودس السم في العسل أحياناً أخرى. وبالتالي، فحراس الهيكل هم عناصر الطابور الخامس المرتبط بالنظام والذي يتلقى تعليماته منه. 

بالطبع لا يمكن لأي نظام سياسي أن يخلق ثقافة شعب. لكن النظام السياسي يستطيع أن يكون صاحب بصمة واضحة في ثقافة مجتمعه. أي، يستطيع أن يدفعها للتطور ويستطيع أن يكرسها، خاصة إذا كانت هي بالأصل ثقافة منتجة للاستبداد كما هو الحال في الثقافة العربية، وربما الشرقية بشكل عام. وإذا أراد المرء أن يكون منصفاً؛ فلا بد من الاعتراف بأن الثقافة الغربية هي ثقافة أنتجت الديمقراطية وتطورت الديمقراطية في أحضانها، وهي بشكل عام ثقافة مناهضة للاستبداد. لذلك، فالاعتقاد بأن "فوبيا" الغزو الثقافي هي من صنع الأنظمة المستبدة هو اعتقاد تدعمه الكثير من الأدلة لمن أراد البحث عن أدلة.

لأنهم أكثرية، لا يمكن القبول بفكرة إن "حراس الهيكل" كلّهم عناصر في الطابور الخامس يتلقون التعاليم من النظام الحاكم. لكن القول: "إن حراس الهيكل هم حراس نظام الاستبداد" من حيث يدرون أو لا يدرون؛ قول يصعب دحضه.

التعليقات (3)

    عبد الغني محمود

    ·منذ سنة 10 أشهر
    برمجة العقل الخاطئة ونشر الفيروسات الضارة من أولويات الأنظمة المستبدة والفاسدة شكرا أستاذ مصطفى على جهودك الرائعة

    HOPE

    ·منذ سنة 10 أشهر
    ما حرص عليه المقبور وابنه تربية كلاب ترضى بالفتات لترهب المجتمع الذي تكسرت روابطه وقيمه الاخلاقيه والدينيه التي جعلته متماسكا على مر العصور في وجه الغزوات التي مرت على منطقتنا. عدم قدرة المثقفين السوريين على ايجاد جسم سياسي بعد الكارثه التي حلت بنا هي نتيجة القيم المنحطه التي زرعها ال الاسد ومطبلي البعث ومن لف لفيفهم.. مقال رائع شكرا للكاتب.

    يوسف اليوسف

    ·منذ سنة 10 أشهر
    سلمت يمينك استاذ مصطفى
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات