الحرب العالمية الثالثة المبطنة

الحرب العالمية الثالثة المبطنة

لا شك أن الحرب العالمية الثالثة الناعمة التي تخوضها روسيا بمواجهة النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، ولّدت يقيناً لدى أكثر دول العالم بحتمية خسارة روسيا للمعركة العسكرية في أوكرانيا، حتى لو وصلت الى أكبر المدن الأوكرانية وخاصة بعد الخسائر التي ضربت روسيا في مقتل العمق الإستراتيجي وعلى رأسها السمعة والصيت الأعظمي للترسانة العسكرية البحرية والجوية والبرية. 

لقد كانت هواجس الروس دوماً من حلف الناتو بضم أوكرانيا إليه وكانوا يريدون تعهداً من الغرب بعدم القيام بعملية الضم، ومع ازدياد مخاوف روسيا من تمدد الناتو باتجاه أوروبا الشرقية، جاءت الصفعة الكبرى من واشنطن عندما رفضت الالتزام والتعهد في ردها المكتوب بعدم إغلاق باب حلف شمال الأطلسي أمام أوكرانيا، ضاربة أمريكا بذلك عرض الحائط بأحد الشروط الأساسية لروسيا لتخفيف التوتر مع جارتها أوكرانيا، والأدهى من ذلك القول الصريح لوزير الخارجية الأمريكي  بلينكن الذي وجه رسالة أوضحت لموسكو أنه بإمكان كييف اختيار حلفائها. وأردف بايدن بأن هناك أسساً ومبادئ جوهرية تلتزم بها أمريكا ومستعدة للمحافظة عليها والدفاع عنها، تتمثل بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها وحق الدول في اختيار الترتيبات الأمنية والتحالفات الخاصة بها، تاركين الباب موارباً بعض الشيء للدبلوماسية كأفضل وسائل لتحقيق التوافق ونزع فتيل الأزمة. قبيل اندلاع الحرب على أوكرانيا والغزو الروسي لأراضيها.

بعد انطلاق آلة الحرب الروسية وفشل القوات الروسية على الكثير من الجبهات، وصمود القوات الأوكرانية في الدفاع، وتدمير الأرتال على المحاور وتدمير الطائرات المقاتلة والقاذفة والحوامات القتالية وتدمير الطراد الأكبر موسكافا في البحر الأسود الذي كان  له أثر كبير في خلق تراكمات سلبية محرضة على تأزم الصراع الغربي الروسي لاحقاً. وعلى رأس هذه التطورات إرهاصات بوادر استخدام السلاح النووي الروسي بعد أن تورطت روسيا في المستنقع الأوكراني الذي اعتبرته أمريكا وأوروبا والغرب بأكمله، بأنه معركته الأولى وذات أفضلية عن كل المعارك الجانبية الأخرى وسخرت لها كل إمكاناته المادية والقتالية واللوجستية، وبكل ما أوتيت من قوة قامت بحشد عالمي واسع النطاق لإرسال الأسلحة لأوكرانيا بمئات وملايين من الدولارات وكأنها تشجع الطرفين على الاستمرار بخوض معركة كسر العظم المراد منها قصم ظهر روسيا وإعادتها الى ما دون الصفر بعد فقدانها للكثير قدرتها القتالية في كل مجالاتها العسكرية، إضافة لفقدان الروح المعنوية للجيش الروسي المنهار.

قــــــــــــــــــرار بوتين باطنه الخوف والاضطراب

بقرار خجول يتخلله الخوف أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزارة الدفاع بوضع قوات الردع الاستراتيجي الروسية في حالة تأهب قتالي، بتاريخ يوم الأحد 27 فبراير 2022 وهو ما يتيح استخدام أسلحة نووية. وجاء قرار بوتين خلال اجتماعه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف.

لكن هذه الخطوات لا تعدو عن كونها احترازية بعد أن اشتدت الأزمة الأوكرانية المتولدة من الصراع الروسي الأمريكي، الذي أجبر بوتين على اتخاذ هذا القرار رداً على مسؤولي الغرب الذين “لم يكتفوا باتخاذ خطوات عدائية اقتصادية وحسب… بل أدلى مسؤولوهم في حلف الناتو بتصريحات عدوانية ضد روسيا”.

لا شك بأن تحرك الفرقاطات الأمريكية نحو أوكرانيا وأطنان من الأسلحة الأمريكية التي تهبط في أوكرانيا قادمة من بولندا تارة ومن الجو تارة أخرى، التي أرخت بظلالها على الواقع الدراماتيكي الأوكراني المنيع على القوات الروسية والتي فشلت في كثير من الجبهات، فالواقع مكهرب لدى أقوى دول في العالم، والأجواء ضبابية وكل ما في تقدير الموقف العسكري هو بوادر حرب بين حلف الناتو وروسيا، وأجواء الحرب الروسية على أوكرانيا قد أحضرت معها من جديد أخطار الحرب النووية.

التـــــــــــوترات السابقــــــــــــــة

لم تكن الأجواء السياسية يوماً من الأيام هادئة بين المعسكرين بل سبقها الكثير من الأزمات في سالف الأيام، وليست هذه الأزمة الأولى بل سبقتها أزمة الصواريخ في كوبا التي بدأت في 8 أكتوبر 1962 وكادت أن تشعل نار حرب عالمية ثالثة، عندما اتفق الاتحاد السوفيتي على وضع صواريخ استراتيجية في القواعد الكوبية التي تبعد 140 كلم عن الأراضي الأمريكية، وجاء ذلك رداً على نشر الولايات المتحدة صواريخ “ثور” في بريطانيا ضمن مشروع “إميلي” عام 1958، بالإضافة لنشر صواريخ “جوبيتر” في كل من إيطاليا وتركيا عام 1961، وذلك بهدف تطويق الاتحاد السوفيتي بأكثر من 100 صاروخ ذات رؤوس نووية.

في العام 1962، وصلت الأزمة السوفيتية الى ذروتها بعد رفض جون كيندي أيضاً وضع صواريخ سوفيتية في كوبا ووصل الأمر إلى استنفار نووي لدى الطرفين وبدأ العد العكسي للحرب. لكن تم الوصول إلى تسويات سحبت بموجبها موسكو صواريخها من كوبا شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا وأن تتخلص بشكل سري من صواريخ “ثور” و”جوبيتر” المنصوبة في بريطانيا وكل من إيطاليا وتركيا.

ولكن بعد حوالي 60 سنة من هذه المواجهة أصبح واضحاً أن موسكو تريد أن تصل إلى تسويات مماثلة وأن تحمي نفسها من التهديد الناتج عن سعي واشنطن لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو لتضع على أراضيها معدات عسكرية وأسلحة نووية تهدد روسيا، وذلك بعد أن خالفت واشنطن التعهدات التي أخذتها على نفسها عام 1990 عندما أكد وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الحين جيمس بيكر للرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع الناتو “شبراً واحداً إلى الشرق”.

فاليوم يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن الروسية، بحيث لم تستطع موسكو سابقاً أخد أي ضمانات من أمريكا بعدم ضم أوكرانيا للحلف. وخاصة بأن أمريكا تعهدت لأوكرانيا بتسليم سلاحها النووي لموسكو مقابل حمايتها من أي هجوم روسي.

البيرويستريكا السوفياتية:

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي رفضت حكومة كييف وواشنطن وحلف الناتو طلبات الكرملين وقامت الولايات المتحدة بضم كل من الدول إلى الناتو كدول لاتفيا، وسلوفينا، وليتوانيا، وسلوفاكيا، ورومانيا، وبلغاريا، واستونيا، وبولندا، ورومانيا، والبانيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية.

واليوم كانت النتيجة البعيدة لرفض أمريكا لطلب موسكو بشن الحرب، واقتراب العالم من حافة هاوية حرب نووية، فمن الناحية العسكرية روسيا باتت تبدي قلقها من توسع حلف الناتو في أوكرانيا وقامت بما يترتب عليها عسكرياً من تدابير آنفة الذكر من تحشد طبيعي لرفع جاهزية قواتها المسلحة استعداداً لدرء خطر هيمنة حلف الناتو القادم. وتحضيراً لاتخاذ قرار الحرب على أوكرانيا في الوقت المناسب لاستعادتها كما كانت من قبل في عهد الاتحاد السوفياتي، وهذا هو ما يخشاه الغرب في أوكرانيا من عودة الدب الروسي لأمجاده السوفياتية.

الأزمة الأوكرانية ليست وليدة ساعتها وإنما لها جذور، وجذور تفاعل شدتها تتجلى في الأسلوب الذي انتهت بها الحرب الباردة وما خلفته في نفوس الأمريكيين من جهة والروس من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن تلك الحرب انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، فإن الروس لا يرون أن ذلك يعني هزيمتهم وانتصار الأمريكيين.

لكن الأمريكيين يتصرفون على أنهم المنتصرون وأصبحت أمريكا تعزز وتوسع حلف الناتو، حيث بدأت في ضم أعضاء جدد حتى ارتفع العدد من 16 دولة إلى 30، وانضمت دول من الكتلة الشرقية أو الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى عضوية الحلف العسكري الغربي، ليتمدد الحلف بنحو 965 كم أقرب نحو الحدود الروسية، رغم الوعد الأمريكي بعدم التوسع شرقا بوصة واحدة. لكن روسيا التي خرجت من نهاية الحرب الباردة أرادت إعادة الوضع الى ما كان علية سابقاً لأنها أدركت أن ما حدث عكس ما كان يفترض أن يحدث طبقاً لوعد قدمته الولايات المتحدة لروسيا قبل ثلاثة عقود. ويدلل على نوايا الولايات المتحدة الأمريكية تتبع طريقة غايتها توسع بها حلف الناتو في أوروبا الشرقية.

ختاماً وعلى الرغم أن الجانبين يجريان مفاوضات معظم الأحيان تكون عقيمة .فالقادم ستكون له عواقب وخيمة وما سيحدث بعد ذلك سيكون له تاثيراً كبيراً في تغيير الهيكل الأمني لأوروبا بالكامل للخطر

هل نستطيع القول إنها نهاية العالم، أم هي مؤشرات لبدء استخدام السلاح النووي وبدء الحرب عالمية ثالثة، فهل ستبدأ الحرب العالمية الثالثة ويتدمر العالم من جديد، أم ما هي نهاية هذه الاضطرابات الساخنة المشبعة بالاحتقان السياسي والعسكري، وتنظيم تحالفات من جديد وتغيير نظام الأمن في أوروبا.

التعليقات (2)

    آرام

    ·منذ سنة 10 أشهر
    شكراً لسيادة العميد هالمقال، وانا من اشد المعجبين فيك وبتمنى إلتقيك شخصياً... حابب ضيف نقطة مهمة وهيي روسيا وأميركا متفقين تحت الطاولة ، المصالح المشتركة دائماً موجودة حتى لو تغطت بشوية معارك او حروب وهمية يلي بس بتأثر عالشعوب المسكينة... السياسة لعبة وسخة ، المصالح دائماً تغلب المبادىء..

    عبدالله الاسعد

    ·منذ سنة 10 أشهر
    تعليق ارام مهم جداً بمايخص تطابق وجهات النظر بما يخص المهام الاستراتيجية التي لم تتلاشى لاتحت الطاولة ولافوقها وهذه التوافقات حتى أثناء الحرب الباردة كانت مستمرة وكانت تناط بروسيا مهام في الشرق الاوسط وفي القضايا الإقليمية لما لها من أهمية جيو استراتيجية جيوبولتيكية من منظور الطرفين المتصارعين
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات