مع عودة التهديدات التركية بشن عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري، عاد الحديث عن مدينة حلب وإمكانية أن تدخل مجدداً في الحسابات السياسية أو العسكرية بين القوى المتدخلة في الشأن السوري، وخاصة أن هناك من يعتقد أن المدينة لم يُحسَم مصيرها بعد، رغم مرور نحو سبع سنوات على استعادة ميليشيا أسد السيطرة عليها بشكل كامل.
صفقة
واستغلت الكثير من الحسابات المؤيّدة لتركيا على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك منصات إعلامية، الحديث التركي عن عملية عسكرية جديدة في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا "قسد" لتطرح من جديد إمكانية استعادة مدينة حلب، أو على الأقل إخراج قوات النظام منها في إطار صفقة سياسية مع روسيا، كثمن مُجزٍ تقدّمه لتركيا مقابل استخدام الأخيرة حق الاعتراض على طلب كل من السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي/الناتو.
ومنذ سيطرة ميليشيا أسد، بدعم روسي وإيراني، على المدينة نهاية العام ٢٠١٦، لم يتوقف الحديث عن إمكانية إخراج هذه القوات منها، خاصة مع قناعة الكثيرين بأن سقوط المدينة كان بصفقة بين الروس والأتراك مقابل السماح لأنقرة بتنفيذ عملية "درع الفرات" التي سيطرت بموجبها على كل من مدينتي الباب وجرابلس بريف حلب الشرقي.
قناعة عزّزها حديث وزير خارجية تركيا السابق أحمد داوود أوغلو، عقب استقالته من منصبه نتيجة خلاف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال فيها إن تركيا تخلت عن المدينة مقابل صفقة مع موسكو، لكن عدم زيارة رأس النظام بشار أسد إلى حلب رغم مرور أكثر من ست سنوات على سيطرة ميليشياته عليها، جعل البعض يعتقد بأن هناك جزءاً لم يتكشف بعد من هذه الصفقة.
سيناريوهات
ويرسم هؤلاء سيناريوهات عدة حول مستقبل المدينة التي تعتبر عاصمة الشمال السوري، ومنها أن تتحول إلى منطقة منزوعة السلاح لتكون أول محافظة كبيرة في سوريا يعود إليها اللاجئون.
وعلى اعتبار أن حلب يعيش فيها اليوم نحو مليون ونصف مليون نسمة، وهو أقل من نصف عدد سكانها قبل عام ٢٠١١، فإن هؤلاء يرون أنها يمكن أن تكون، في حال توافقت الدول المتدخّلة بالملف السوري على تحويلها لمنطقة منزوعة السلاح، أو عاصمة للمنطقة الآمنة العتيدة في الشمال، ملاذاً لما لا يقل عن ثلاثة ملايين سوري من المهجرين في الداخل والخارج، وهو أمر مُغرٍ للدول التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين.
ويعتقد أصحاب هذا الرأي بأن هناك مستنداً قانونياً يمكن الاعتماد عليه في إنفاذ هذه الصيغة، وهو قانون الإدارة المحلية السوري الصادر عام ٢٠١١، ويقولون إن النظام وروسيا يمكن أن يجدوا فيه مخرجاً للقبول بهذا الحل إذا ما حصلت أي صفقة، خاصة أن دمشق وموسكو سبق أن عرضتا على الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا القبول بهذه الصيغة من أجل البدء بحوار جدّي معها.
مجرد حلم
لكن الباحث في مركز جسور للدراسات “وائل علوان” يستبعد أن يكون مثل هذا الطرح موجوداً اليوم على طاولة المفاوضات بين تركيا والقوى الرئيسية المتنفّذة في سوريا، ويصفه بأنه مجرد حلم لا أساس له.
ويقول لـ"أورينت نت" تعليقاً على ذلك: “إذا أردنا الحديث في التمنّيات فكما يوجد بين السوريين من يحلم بعودة حلب إلى سيطرة المعارضة بناء على صفقة، فإن بين الاتراك أيضاً من يحلم باستعادة أمجاد (الدولة التركية الكبرى والأقاليم الضائعة)، لكن إذا أردنا أن نكون واقعيين فإن الوضع في سوريا وطبيعة الصراع والتدخلات والمصالح والمشاكل لا مكان فيها لمثل هذا الطرح، وأقصى ما تريده تركيا الآن هو السيطرة على الحدود بعمق ثلاثين كيلومتراً من أجل تأمين شريطها الحدودي وإقامة منطقة عازلة تنهي الهجمات التي تتعرض لها مدنها الحدودية وتقوّض إمكانية إقامة كيان كردي شمال سوريا وهذا معروف للجميع”.
فرصة
لكن السوريين المتأمّلين بحدوث تحوّل كبير يُفضي إلى عقد صفقة على مستوى إخراج قوات النظام من حلب، ورغم أنهم يقرّون بأن هذا أقرب إلى الحلم بالفعل، إلا أنهم يعتقدون أن هناك فرصة ممكنة اليوم من أجل تحويله إلى واقع.
وينظر هؤلاء إلى التحفظ التركي المعلن على طلب السويد وفنلندا (جارتي روسيا) الانضمام لحلف شمال الأطلسي، وامتلاك أنقرة الحق في رفض هذا الطلب، على أنه فرصة استثنائية يمكن أن تجعل روسيا تدفع ثمناً كبيراً مقابله، وهنا يمكن أن تكون حلب هو هذا الثمن.
ورداً على أن لدى أنقرة مصالح أخرى أكثر إلحاحاً يمكن أن تطلبها من روسيا في حال قررت تحقيق رغبتها في منع دخول جارتيها الإسكندنافيتين للناتو، يقول هؤلاء إن استعادة حلب أو تحويلها لمنطقة منزوعة السلاح هي مصلحة تركية بامتياز، إذ وإلى جانب ترسيخها كمنطقة نفوذ تركي، فإنها ستجعل مئات الآلاف من السوريين المقيمين في تركيا يعودون إليها.
استحالة الاعتبارات
لكن معظم الشخصيات المعارضة السورية التي استطلعت "أورينت نت" رأيها حول هذا الموضوع استبعدت بشكل كامل هذا السيناريو بناء على عدة اعتبارات أهمها:
١-الرمزية المعنوية الكبيرة التي تمثّلها حلب كثاني أكبر مدن سوريا والعاصمة الاقتصادية للبلاد ومركز الثقل البشري والحضاري الأول في الشمال والشرق، وخروجها بشكل كامل من يد النظام يعني سقوطه، إذ حتى عندما كان نصف المدينة خارج سيطرته كان ذلك عاملاً مهماً في صالح المعارضة وأدى إلى هزّ أركان النظام بشكل كامل.
٢- عدم وجود أي مشروع أو حتى فكرة مشروع على طاولة الدول المتدخلة في الشأن السوري حول ذلك، بل إن مساعي تركيا لاستكمال تنفيذ ما اتفقت عليه مع كل من روسيا والولايات المتحدة حول المنطقة العازلة، رغم أنها تشمل الشريط الحدودي فقط ما زالت تصطدم بممانعة كبيرة.
٣- عدم تقديم المعارضة نموذجاً جيداً في حكم وإدارة المناطق الخاضعة أو التي خضعت لسيطرتها، الأمر الذي لا يمكن أن يشجع أي طرف على التفكير، مجرد التفكير بمثل هذا الطرح.
٤-الخشية من تقسيم سوريا، وهو العامل المشترك الذي يجمع كل القوى والأطراف المتدخلة في الملف السوري بمختلف توجهاتها، حيث سيعزز منح حلب وضعاً خاصاً -كما يطالب أو يأمل البعض- المخاوف من تقسيم البلاد، وهو ما تخشاه تركيا نفسها لأنه سيشجع الطرف الكردي على المطالبة بكيان خاص به بشكل رسمي وأقوى من قبل.
لماذا لم يزُر بشار حلب ؟
وعليه يستبعد الكاتب والمحلل السياسي السوري “عمر كوش” هذا السيناريو، مؤكداً أن الحديث لم يخرج عن حدود عمق الثلاثين كيلو متراً التي تريد تركيا جعلها منطقة عازلة بينها وبين القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
ويقول في تصريح لـ"أورينت نت": “حتى لو افترضنا أنه يمكن أن تكون هناك صفقة كبرى بين روسيا وتركيا، أو ثمن مُغرٍ قد يُقدّم لأنقرة من قبل موسكو، فبالتأكيد لا يبدو وارداً أن يكون في حلب، لأن المدينة لا تسيطر عليها روسيا فقط، فهناك إيران أيضاً، وبالتالي يجب أن تكون الصفقة ثلاثية، هذا أولاً. وثانياً فإن الدور الأمريكي لا يمكن تجاهله هنا، ما يجعلنا أمام أربعة أطراف ويعقّد الأمور بشكل أكبر”.
وحول نقطة عدم زيارة بشار أسد إلى حلب حتى الآن رغم مرور وقت طويل على استعادة ميليشياته السيطرة عليها، يقول كوش: “هذا الأمر ربما يكون مرتبطاً بحسابات أمنية أو عوامل داخلية ولا أعتقد أنها مرتبطة بعدم حسم مصير المدينة كما يروّج البعض”.
وإلى جانب هذا التقدير يرى بعض المعارضين الذين ناقشت "أورينت" هذا الملف معهم أن عدم زيارة رأس النظام إلى حلب بعد ست سنوات ونصف على سقوطها دلالة على مدى انزعاج بشار أسد من حلب وأهلها بسبب انخراطها في الثورة، على عكس توقعاته التي كان يظن معها أن المدينة شديدة التأييد له، بسبب إبدائه بعض الاهتمام بها قبل عام ٢٠١١ وزياراته المتكررة لها وتنفيذ عدد من المشاريع فيها والتي لم تنعكس بالمحصلة إلا مكاسب استفاد منها رجالات النظام والمرتبطون به.
ولذلك يرى هؤلاء أن بشار يعتقد أنه بذلك ينتقم من حلب التي لم يَخفَ على المقرّبين له أنها “خذلته”، ويستدلّون على ذلك بعدم تنفيذ أي مشروع مهما كان صغيراً فيها بعد استعادة ميليشياته السيطرة عليها، مهما كان صغيراً وحتى على مستوى إزالة الانقاض.
أكثر من ست سنوات مرت على خروج قوى الثورة والمعارضة من حلب، ودّعها من ودّعها بالدموع والقهر، بعد أن امتزج ترابها بدم عشرات الآلاف من الضحايا الذين تمسّكوا بالبقاء فيها، لكن المصالح والإمكانات كانت أقوى من أهلها ومحبّيها الكثر، الذين عاشوا فيها أربع سنوات من الحرية بعد طرد قوات النظام وميليشياته من قسمها الشرقي صيف عام ٢٠١٢، لكن ورغم مرور كل هذا الوقت ما زالت حلب حلماً لا يفارق الكثيرين، ورغم أنه لا يوجد أي مؤشرات أو معطيات على تحقيقه، إلا أن أحداً لا يمكن أن يمنع أصحاب هذا الحلم من الحلم.
التعليقات (6)