حملت الرواية السورية بعد الربيع السوري المغدور طاقة تحاورية عالية على جنبات الموت والقهر والتشريد والاعتقال، فقد أصبحت وسيلة للنضال ضد أحد أعتى النظم العسكرية الطائفية الأكثر إجراماً في التاريخ الحديث.. وفي هذا السياق يمكن قراءة رواية (بنات لحلوحة) للكاتبة ابتسام التريسي.
الحكاية في بنات لحلوحة
الزمان والمكان والشخصية وسماتها؛ أشياء ميزت أيدلوجية أعمال الكاتبة السورية ابتسام تريسي، وفي روايتها الأخيرة (بنات لحلوحة) انتقلت تريسي من السرد الكلاسيكي إلى السرد المفتوح، السرد الذي يسعى لمعالجة كل موضوعاته دفعةً واحدةً: عن المرأة الزواج والطلاق والحب والموت وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والثقافية وغير هذا وذاك.
"المنزول كان المدرسة التي تعلمنا فيها النظام وأنه لا بد من شخص يدير أمورنا، تعلقنا بلحلوحة ليس بسبب إدارتها لأمورنا وفض النزاعات بيننا، ولا لأنها تملك سلطة عجيبة تخضعنا من غير تفكير، كان هناك شيء خفي لا أستطيع التعبير عنه بدقة، ثقة عمياء، إحساس بأمومة خفية، انجذاب لفرادة الشخصية، لا أعرف، الحقيقة أني لا أعرف يكفيني الشعور به".
المقتطف السابق من رواية(بنات لحلوحة)للروائية ابتسام تريسي، الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع في الأردن، الرواية تقع في 432 صفحة قطع وسط، تسلط الضوء على قضية سوريات تم استغلالهن وتجنيدهن على مدار 4 عقود في العمل بائعات هوى، وفي تأدية مهام استخباراتية لصالح الأجهزة الأمنية منذ سبعينات القرن الماضي حتى قيام الثورة عام 2011.
المرأة في بنات لحلوحة
حاولت الروائية ابتسام تريسي ربط عالم المرأة السورية بزمن وصول الضباط العلويين للسلطة في سوريا وإمساكهم بزمامها عبر تهميش كل القوى الاجتماعية والسياسية. هذا التحقيب "الأسود" بقي رمزاً أيدلوجياً لا أكثر. لم ينجح روائياً أن يكون رمزاً للحب والتضحية أو التعبير عن الوطن القومي المفقود… لم تنجح المؤلفة في تصدير صوت روائي يعبر عن تلك المرحلة بشكل روائي لائق، فالرواية لم تبرز أكثر من دور الرجل في تحقير المرأة وتهميش دورها والإحالة هنا روائياً على دور ضباط المخابرات في المنطقة الشمالية "أبو فراس" وتجنيده لعدد من بائعات الهوى كمُخبرات متمرسات على أداء مهام على قياس النظام الحاكم.
في رواية (بنات لحلوحة) نلتقي المرأة بعد المرأة، بأنماط معينة من المواقف والشخوص التي تكاد لا تتغير في نسيج تكوينها، وإمكانيات المؤلفة في هذا العمل متواضعة لا ترتقي لخلق شخصياتها خلقاً روائياً جديداً.
بالتفصيل أكثر؛ لم تنجح المؤلفة في جعل النساء بطلات في روايتها، الشخصيات لم تعش فترة انتقالية بين ذاتها، وبين وضعها والوضع التي تتطلع إليه، الحبيبة والزوجة والأخت… شخصيات لم تدخل قلبي أو عقلي، فالخروج من الذات المهمشة والمحتقرة إلى الكفاح وإبراز الذات فاشل وتائه وسط تنويع روائي مطلوب، ولكنه في عملنا المطروق غير متمكن وواعي من استعمال أدواته، وهذا ما نلمحه حاضراً على طول صفحات الرواية.
"أنا موجودة إذاً أنا قادرة على الكتابة"، جملة تتطرق في أذني على مدى عقد ونيف من امتهان تريسي للمعترك الروائي، ربما علينا أن نذكرها للمؤلفة أن مرحلة الكتابة لمجرد الكتابة، لا يمكن أن يستمر لها التصفيق طويلاً دون تجديد بنائي وفكري في ذات الوقت.
بالتفصيل؛ أليس مملاً للقراء بقاء كتابات تريسي منتمية لمرحلة "ما بعد الاستعمار" وهي تنتمي لجيل ما بعد الثورة السورية. أليس مملاً الحديث عن العادات والتقاليد التي أصبحت طقوسا "بالية" أكثر من العادات والتقاليد نفسها…!؟ والإرث اللغوي في الرواية حال كل روايات تريسي إرث قديم وبالٍ لا يصلح كلغة روائية معاصرة سواء بتحقيب ما قبل "الحداثة" و"ما بعد الحداثة "كسمات عامة لا أكثر، فشلت لغوياً المؤلفة في إقناعي على الأقل بلغة مقبولة روائياً بمعناها المعاصر على أقل تقدير. الثورة السورية روائياً تجاوزت بكثير الكثير الـ"أنا" والبحث عن الحرية، برأي ووعي المرأة السورية وتقدمها على محيطها العربي منذ القدم حتى اليوم، يجعل من فعل الكتابة عن المرأة السورية يفترض خلق نوع جديد من الأدب يتماشى مع كل مرحلة، فالمرأة الكاتبة يجب أن تكون على قدر من التحدي المفترض، وليس الهروب فقط نحو تحرير المرأة وتثقيف الرجل لحياة المرأة، أشياء من الماضي والماضي السحيق، ربما بقي حالات من المطروق الأدبي التاريخي للمرأة، ولكنها لا ترتقي لكونها تخرج عن توصيفها بـ"الحالة" إلى تشكيلها "الظاهرة".
صورة الجسد في الرواية
ارتبط الأدب بالجسد ليتكلم عبره، ومن خلال جماله، ومحاسنه ومساوئه ليتناول قضايا هامة. إذاً كيف بدا الجسد في رواية (بنات لحلوحة)؟
الجسد الأنثوي موضوعة رئيسة في الرواية؛ أزعم أن المؤلفة ابتسام تريسي لم تحسن توظيف الجسد الأنثوي، الذي حضر أيدلوجية أكثر من توظيفه الجيد، الجسد حاضر كمفاتن جميلة أكثر من التعبير عن أبعاده وخلفياته النفسية والفيزيولوجية والاجتماعية والسياسية، ولا يمكن أن يكون المعبر والقادر على توجيه أحداث الرواية والتحكم بكل مساراتها وتعرجاتها وحبكتها وعقدتها.
ومفهوم جسد الشخصية في روايتنا لا ينتقل من البساطة إلى التعقيد ليدخل في صراع نفسي واجتماعي يوضح مفاهيم قمعية في نظم قمعية من قبيل الكبت والقمع الجسدي وتوظيفها في تسير أمور البلاد والعباد، والنظرة الروائية قاصرة على كون الجسد طامح للتحرر من القيود حتى لو كانت تصرفات شاذة نحو الحرية بمعناها النسبي، والآخر الذكر غائب عن العلاقة إلا بكونه طامحا لكسر قيد القمع والكبت الجنسي، "ويبقى أن هذا الجسد هو جسد الأنثى، وإن كان حضوره هو حضور في علاقة حب مع الآخر الذكر "حسب ما تذهب إليه الناقدة يمنى العيد؛ توافر الحب في السرد يعطي تنوع روائي يصنع علاقات حب بين المرأة والذكر، ملامح تغيب عن الرواية لصالح حضور الجسد "تحت القهر "وهو ملمح بازر في رواية (بنات لحلوحة).
في الحديث عن نقد رواية (بنات لحلوحة) للروائية ابتسام تريسي، لا بد من القول إن تريسي روائية جيدة، متمكنة من أدواتها السردية بشكل كبير، ولكن لا بد من ضبط الرمز جيداً في أعمالها، ولا بد من الاهتمام بشكل أكبر بتجديد الفلسفة واللغة والأفكار، ولا بد من النبش الروائي في المكان الصحيح.
التعليقات (1)