السويداء البازلت المركون في دهاليز الشيطان جنوب حوض دمشق، بالكاد تسعين كيلو مترا. ذاك الرصف المهول والمرعب الذي ينطوي اليوم على خطف ومخدرات وانتحار، قتل وقتل مضاد، طرق منعرجة لمرور أبالسة الجوار القريب والبعيد.
أزقة لا يلجها أغنياء الحرب
لك أن تمر صباحا وسط شوارع شبهت بالشوارع ومدينة شبهت بمدينة لتصدم روحك مشاهد الفقر، هناك أزقة لا يلجها أغنياء الحرب، هي فقط برسم الذين أولمت الحرب بلحم ودم أولادهم، فقط هي للذين غابوا أبداً عن الحياة، ودفنوا لكن أحياء، وفوق جثثهم تمر الزواحف والمسوخ.
أسواق تعج بكولبات أمنية وأسلحة وصنوف من المخدرات، وأما الحرب على الشعب فقد أخذت صور إعلام يملأ الفراغ المعنوي والاقتصادي والسياسي بهراء وذهانات الأجهزة الأمنية التي يعبر عنها محللون في برامج مسخرة بحرفية التعبير تماماً.
فتور الفاعلية الثورية
لقد تجلى بصورة لا تقبل الشك أن الفاعلية الثورية تمر بفترة فتور أو عدم الرغبة في فعل شيء، وأما النظام الذي تلبس مشهوداً بقضايا التعذيب والسجون والقتل بكل طرقه وأشكاله قد أمعن في التعبير المزمن عن مواقفه...
إنها حالة انسداد، لا فرج قريبا، حتى الحد الأدنى من المفاوضات بلغ حده الأدنى في المتابعة والممارسة، وقد أدرك الجميع أن القضية السورية لم تعد هماً محورياً في التعاطي الدولي، وأن التلويح بالمحاسبة هو بذمة زئبق المعايير الذي فرضته المواجهة بين الناتو وروسيا، إذا تستيقظ سوريا على خواء، ويعي الجميع أنه وجب وبأسرع وقت القطيعة مع أي وعد إقليمي أو دولي، وإن التوقعات صفرية إن كانت بصفة عقائدية أو اقتصادية. وبات علينا أن نعلن بداية جديدة توضح مشتركاتنا وأساسياتنا لنواصل على متنها المقاومة، وماذا نريد في هذه المرحلة الغامضة الملامح والأبعاد والمآلات.
في السويداء أدركت التجمعات بمختلف مسمياتها أن القضية السورية هي قضية كل مدينة وكل قرية وكل بيت، وإن قضايا كثيرة لشعوب ضعيفة انتصرت بالإرادة وأننا نفتقد لهذه الإرادة لتكون المقاومة مشروعاً مضموناً.
الكارثة السورية زلزلة في تاريخنا المعاصر، هدمت سورية المكان وهجرت الذاكرة الجمعية إلى المنافي، وانسحب الشعب من الزمان والمكان والأثر والتاريخ والفعل إلى زمن افتراضي تضع طقوسه سياسات دول، مرة في شهر الكشف عن المذابح والسجون وأسرارها، ومرة في مشاريع الدول الأربع المحتلة، وأخرى عبر تقسيمات الأمر الواقع في المناطق السورية المسماة مرة قسد وأخرى مسد وأخرى منطقة الشمال المحررة.
القضية السورية تحولت إلى تداعيات احتلت فيها جدلية العلاقة مع النظام مكان جدلية البناء والتحرير والنهضة، واكتشف السوريون أن البحث عن زمن سوري مشترك ليس إيديولوجيا وليس تبعية وليس دعما، وأن تزييف الواقع بات حركة مكشوفة حتى العري الفاحش، وأنه لابد من تجمع وظيفي يواجه ما حل بنا، تجمع يقاطع التطرف الحزبي يساراً كان أو يميناً أو ماضويا يصور سورية الفردوس قبل البعث، وإن المقاومة العاثرة فشلت لأنها لم تفعل ولم تشارك عبر المعارضة إلا في المزيد من إتاحة الوقت للنظام وعدم تقدير الوقت والفرص المتاحة، ولذلك نقترح مسمى التوافق، حيث يبدو واقعياً في ظل هذا الهدر والاستطالة والسطحية فيما كان مطلوب إنجازه.
"التوافق" كمشروع وطني مقاوم
إن السويداء هي سوريا، وسوريا هي كل مناطقها وحدودها، وإن الفوضى في تفاصيلها وعمومياتها هو تطبيع مع النظام بالقوة. القتل يستمر جنائياً وسياسياً هو ترجمة تقول إن الأمن مرتبط بالمنظومة الحاكمة وغير خاضع للتفاوض، ومن قبله فهو شريك ومن رفضه فهو في زمرة الأهداف. وأما المخدرات وصناعاتها وتسويقها تعني حالة حقيقية، وحالة متراكمة وملحة وتبحث عن ديمومة من إيران وحزب الله، وإن السرقات قاعدة ومدرسة ليبقى البؤس منتجاً للعصابات المسلحة، وكل ذلك هو برسم مشروع وطني مقاوم تحت مسمى (التوافق).
التوافق الذي يهدف إلى وضع خطط للمقاومة وأخرى موازية لبناء دولة وطنية (التوافق) تجمع مقاومة وتحريراً وبناء، لا مسودات مشاريع ولا حلول وسط ولا تدوير للقضايا الملحة ولا قبول بالأمر الواقع ولا بحلول محلية وجزئية، ولا مشروعية لأي مبادرة أو تجمع إلا بمقدار موقفها من خدمة الهدف السوري الذي يقضي بالتحرر، وإقامة حكومة انتقالية تكون مقدمة لعملية البناء الوطني.
وهنا، يذكر التجمع (بقرارات مؤتمر جنيف) كبداية لمفاوضات تفضي إلى حل، وعليه يرفض التعاطي مع الحلول الأمنية والانفصالية والتقسيمية وممثلي السلطة عبر مفاصل الدولة والمجتمع، وأنه لا قبول لأي سقف لا يغطي الأهداف التي عبر عنها بالتحرر والبناء.
وقضى المؤتمرون في التوافق إن صح التعبير على تجاوز التعثر في مسارات التحاور مع مختلف المكونات السياسية، والانتباه من رسم مسارات التفافية مضادة، دون التصريح بذلك عبر قنوات أمنية أو أغراض سياسية مشبوهة، وهكذا تمنح الجهات المعرقلة للحل خيار المضي في الحل أو متابعة المقاومة السلمية والميدانية عبر العصيان المدني والتظاهر، وإعطاء الإعلام دوراً محورياً في توضيح الهدف والمسار، مستخدماً لوجستيات التواصل المتعددة... بما فيها اللغة وشتى الوسائل الفاعلة.
التعليقات (0)