درب بوتين الدموي من سوريا إلى أوكرانيا (2من2) في سوريا تخلّص من أسلحته القديمة وجرّب أسلحة جديدة!

درب بوتين الدموي من سوريا إلى أوكرانيا (2من2) في سوريا تخلّص من أسلحته القديمة وجرّب أسلحة جديدة!

في الجزء الثاني والأخير من (درب بوتين الدموي من سوريا إلى أوكرانيا) يتابع الدكتور كارستن فيلاندCarsten Wieland  * الدبلوماسي الألماني، والخبير في شؤون الشرق الأوسط... تحليل مفهوم الحرب في العقلية الروسية، عبر تأمل نماذجها في الشيشان ثم سوريا ثم أوكرانيا.. مؤكداً على عقيدة الروس في التدمير الممنهج وازدراء القانون الدولي، ومستعرضاً بشكل ساخر مفهوم "المصالحة" الذي طبقه الروس عبر جعل العاصمة الشيشانية (غروزني) أكثر مدينة دماراً على وجه الأرض.. ثم عبر تدمير حلب الشرقية من أجل تحقيق "مصالحة: مماثلة!!! (أورينت نت).

عدد القتلى المدنيين أكثر من عدد الجنود

تشترك المقاربات الروسية في الازدراء المنهجي للمعايير الدولية المدوَّنة حسب القانون الدولي، ولا سيما القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان؛ القواعد/المقاربات الروسية التي تم تحديدها لأول مرة منذ أن تم إهمال اتفاقيات جنيف والتي تجاهلها على نطاق واسع ينطوي على خطر من أن تفقد القواعد التوافقية الأممية حولها في السابق قوّتها المُلزِمة العامة، والتي ستزداد سوءاً إذا امتدّت الكارثة الأوكرانية لتصبح أزمة مؤسسية كاملة للأمم المتحدة .. لقد كانت الحرب في سوريا قد سبّبت بالفعل انحرافات في هذه الوظيفة، وقد تُعرّضُ الحرب الأوكرانية المنظمة العالمية لخطر أكبر خاصة على المدى الطويل إذا اتسعت الشقوق في هذه القواعد المؤسسة المتعددة الأطراف بسبب المعضلات الاقتصادية والمصالح الوطنية.

هذا هو نوع الحرب التي تؤدي إلى وفيات بين المدنيين أكثر من القتلى العسكريين، فقد أصبح المدنيون اليوم ضحايا ليس فقط كأضرار جانبية بل بتنا نشهد استهدافاً متعمداً لمناطق مدنية ومخابز ومنشآت طبية وتعذيباً منهجياً وسوء معاملة وقتل أطباء وسلطات محلية – والقائمة تطول - وتُظهر الصور القاسية لجثث المدنيين في شوارع مدينة (بوتشا) الأوكرانية غرب (كييف) وأماكن أخرى في البلاد، أن جرائم الحرب هي جزء غير مخفيّ من هذه الحرب، وتشتمل على تكتيك العصور الوسطى المتمثل في تجويع الأحياء والمدن حيث اليوم في القرن الحادي والعشرين يموت الناس بعد أن أكلوا كل الطيور والقطط والأعشاب من حولهم؛ حدث هذا في سوريا وهو يعيد نفسه الآن في أجزاء من أوكرانيا.

يشمل هذا أيضاً حظر وصول المساعدات الإنسانية والتلاعب بعمليات التسليم ومضايقة الجهات الفاعلة على الأرض وتحويل أنشطتها إلى ميزة عسكرية للطرف المقابل .. لقد ارتكبت الجهات الفاعلة الإنسانية أخطاء كان يمكن تجنّبها من جانبهم، وبالتالي أصبحوا فريسة سهلة للأنظمة الوحشية وعديمة الضمير التي تستخدم جميع الموارد المتاحة في "الحرب التكاملية" ، بما في ذلك الوجود الإنساني الدولي على الأرض وهو ما أوضحته في كتابي الأخير "سوريا وفخ الحياد".

تجزئة الصراع

تشابه آخر محتمل هو تجزئة الصراع؛ حيث يتم تطبيق هذا في أوكرانيا بعد الفشل الواضح لهدف الحرب الأولي المتطرف لروسيا والمتمثل بالإطاحة بالحكومة الأوكرانية وإنشاء نظام دمية موالٍ لروسيا.. التقسيم هنا هو تقسيم المنطقة إلى وحدات أصغر يمكن "العمل عليها" واحدة تلو الأخرى، وهذا له ميزة أن الاهتمام الدولي يتضاءل حين يتوقف القتال المحلي عن إثارة عناوين الأخبار العالمية؛ وهكذا يتم الغزو منطقة تلو الأخرى ويوصف الخضوع بـ "المصالحة" كما في سوريا حيث أنتجت عملية أستانا ما يسمى "بمناطق خفض التصعيد"، وهو تعبير ملطف بالنظر إلى حقيقة أن القتال في جميع المناطق تصاعد إلى درجة لم يعد لها وجود بل تحولت إلى مناطق خاضعة لسيطرة حكومة "أسد" باستثناء إدلب.

في بعض "مناطق خفض التصعيد" ، تم استخدام أسلحة كيماوية وهو ما يُنسب في الرواية الروسية إلى الجماعات المتمردة، وقد وصفت النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة على عكس ذلك بأنها "متحيزة" و "غير مهنية" .. أمر موازٍ آخر لأوكرانيا هو أنه في سوريا أعلنت روسيا أكثر من مرة أن الجانب المعارض كان يستعد لهجوم كيماوي وبعد أيام قليلة حدث مثل هذا الهجوم بالفعل؛ وهكذا تبدو مزاعم تشغيل معامل كيميائية في أوكرانيا للتحضير لمثل هذه الهجمات مألوفة للغاية.

اختبار الخطوط الحمراء للغرب

في سوريا؛ اختبر بوتين الخطوط الحمراء للغرب ولم يرَ أي أثر لها، حتى سجل أنه لم يكن هناك رد بعد هجمات متعددة بالأسلحة الكيماوية من قبل القوات المتحالفة لحكومة النظام في سوريا؛ فقد ابتعد الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن الانتقام وسعى للتوصل إلى حل وسط مع روسيا في عام 2013،  ونتيجة لذلك وافقت حكومة "أسد" في سوريا على تسليم معظم قدراتها الحربية الكيميائية -وهو ما فشلت في القيام به بشكل شامل- بل حتى إنها انضمت بشكل مبدئي إلى اتفاقية الأسلحة الكيماوية (وهو شيء لا معنى له مثل توقيعها على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب في عام 2004) .. لكن لم يكن أوباما وحده من استسلم؛ لقد سمح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لمجلس العموم بالتصويت على دعم الولايات المتحدة في ضربة محتملة ضد الأسد لكن مجلس النواب صوّت ضده وترك أوباما وحده واقفا تحت المطر حيث لم يكن الأوروبيون الآخرون مهتمين في المقام الأول.

وفّرت الخطوة الدبلوماسية الماكرة لروسيا لإنقاذ جلد الأسد في اللحظة الأخيرة ملاذاً وترحيباً لصناع القرار الغربيين الذين ابتعدوا عن المشاركة، وفي هذا السياق قد يكون من الجدير بالذكر أن جيش الأسد لم يحتمِ فقط خلال الأيام التي بدا فيها الهجوم الأمريكي وشيكاً؛ لكن أيضاً فعلت ميليشيات الدولة الإسلامية الناشئة التي كانت ستعاني في ذلك الوقت من الضربات الشديدة من قبل القوات الأمريكية أيضاً.

لاحظ بوتين هذه التجربة في قائمته الطويلة لنقاط الضعف الغربية؛ ففي اجتماع "ديجا-فو" هدد القادة الغربيون بأن استخدام الأسلحة الكيميائية في أوكرانيا سيكون له "عواقب وخيمة"، ولحسن الحظ لم يتم اختبارهم بعد .. في ضوء هذه الخلفية تساءل العديد من السوريين - وقد يتساءل العديد من الأوكرانيين اليوم - لماذا يبدو أنه من المقبول في المقام الأول مهاجمة المدنيين على نطاق واسع بالأسلحة التقليدية بما في ذلك القنابل العنقودية والقنابل الفوسفورية، بينما الأسلحة الكيميائية وحدها هي التي تسبب تصعيداً سياسياً كبيراً وضرب خطٍ أحمر (قد يتحول إلى اللون الوردي)

من غروزني إلى حلب: صياغة قصة "مصالحة"

من خلال تدخلها الملتزم للغاية ذي المستويات الثلاثة في سوريا تمكنت روسيا من تأطير السردية وإعادة صياغتها ووضع تسميات للإجراءات والمفاهيم الرئيسية، حتى إن قصة "الحرب الطائفية التي أججها لاعبون خارجيون في سوريا" تحولت إلى نبوءة تحقق ذاتها واكتسبت المزيد من الزخم مع تحول المواجهة بين نظام أسد والسكان إلى العنف والعسكرة، وانتهت "المفاوضات" فقط عندما قبل الخصم الموقف الروسي المتطرف ليتم التوصل إلى "اتفاقيات المصالحة" في منطقة تلو الأخرى؛ فقد عُقد "مؤتمر المصالحة" في منتجع سوتشي الروسي في عام 2018 في خضم الحرب وحضره من يمثلون الأسد في الغالب، أما اللاجئون في أوروبا فكان يتوجب عليهم (مجازاً) توقيع "اتفاق مصالحة" في السفارات السورية إذا كانوا يريدون جواز سفر جديد.

قبل إعادة احتلال شرق حلب الدامية خلال فترة عيد الميلاد عام 2016 وما تلاه من إنشاء "مناطق خفض التصعيد" أطلعني دبلوماسي روسي آخر في جنيف على تجربة العاصمة الشيشانية غروزني التي محتها القوات الروسية أساساً في عام 1999؛ وصفتها الأمم المتحدة بأنها المدينة الأكثر دمارًا على وجه الأرض في عام 2003؛ لقد أوضح هذا الدبلوماسي الروسي  بكل جدية قائلاً: "يمكننا تحقيق المصالحة أيضاً في سوريا.. انظر، لقد نجح الأمر أيضاً في غروزني وقد كان نجاحاً كبيراً لأنه في النهاية  كان على الناس أن يتصالحوا ".

بهذا المنطق بدأ الروس "المصالحات" في سوريا وسيفعلونها قريباً في (ماريوبول) ومناطق أخرى من أوكرانيا؛ تسير التنازلات أو الطلبات الملفوفة بلغة العلاقات العامة جنباً إلى جنب مع إنشاء هيئات محلية أو إقليمية صديقة للنظام كما حدث في البلدات السورية وكذلك في دونباس وغيرها من المناطق التي احتلتها روسيا في أوكرانيا بعد اختطاف أو قتل رؤساء البلديات المنتخبين، لتأتي الخطوة التالية بأن تعلن تلك الكيانات عن رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الروسي .. قد يقلل هذا بالفعل من العنف لبعض الوقت ولكن على حساب سلام مستدام، وإنهاء العزلة السياسية والاقتصادية، وبالطبع المصالحة الحقيقية.

سوريا ساحة تدريب عسكرية لأوروبا الشرقية

مع الثقة الكاملة بالنفس لدى روسيا والتي تعكس غياب التحديات الغربية، تطورت سوريا إلى ساحة تدريب للجيش الروسي قبل أن يتم إطلاق العنان له في أوروبا الشرقية؛ فقد تخلصت روسيا من أسلحتها القديمة، واستخدمت الساحة السورية كصالة عرض لأسلحة جديدة، ودربت قواتها الجوية، وتركت للآخرين وعلى رأسهم قوات الأسد والمليشيات الإيرانية القيام بالأعمال القذرة على الأرض .. إنه لأمر مدهش أن نرى ما الذي لم ينجح على وجه التحديد في أوكرانيا: لم يكن لدى القوات البرية الروسية أي فرصة للتدرب في سوريا وفشلت فشلاً ذريعاً في أوكرانيا.

كان هناك خطأ آخر في التقدير من قبل بوتين: افترض من كتاب قواعد اللعبة أن الطرد الجماعي للأوكرانيين من شأنه أن يدق إسفينًا في المجتمعات والقيادات الأوروبية كما فعلت أزمة اللاجئين السوريين في عام 2015 بعد تدخل روسيا، لكنه حتى الآن كان مخطئاً، فقد رصّت أوروبا الصفوف بطريقة رائعة وكان التأثير الجانبي الإيجابي هو أن "الاتحاد الأوروبي" قد اكتسب جاذبية ليس فقط كمركز تبادل لمعاملات الأجندات الوطنية للدول الأوروبية؛ لكن أيضاً كمجتمع من التضامن والقيم.. أمرٌ آخر؛ فقد كان السبب المتجدد لوجود حلف شمال الأطلسي.

دور الدولة والقيادة والهوية الوطنية

هناك اختلاف آخر يتمثل في أن الأوكرانيين يتمتعون بوعي وطني قوي متجذر تاريخياً استمر في العقود والقرون الماضية من خلال النضال من أجل تقرير المصير والديمقراطية وهم المحصورون بين المشاريع الإقليمية الكبرى .. لكن لم يكن لدى السوريين الكثير للإشارة إليه في هذا الصدد عندما تحدوا سلالة الأسد التي حكمت - وتدمر - البلاد منذ السبعينيات؛ فقد كان آخر دستور ربما كان يستحق القتال من أجله هو دستور عام 1950 والذي تضمن عناصر تقدمية وقد صدر خلال فاصل ديمقراطي بين فترتي الاستعمار والاستبداد؛ يوم أنه حتى أول رئيس وزراء عربي مسيحي كان سورياً؛ - فارس الخوري (1944-1945 و1954-55) – وهو أمر يشير إليه العديد من السوريين بفخر حتى اليوم بغض النظر عن العقيدة.

يمتلك الأوكرانيون دولة ديمقراطية أقاموها وتتحمل مخاطر كبيرة ، وهم أمة ذات عناصر أساسية مثل اللغة والعادات والدين، بل حتى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية باتت كنيسة وطنية بعد انفصالها عن الكنيسة الروسية عام 2014 .. على النقيض من ذلك؛ ولد السوريون اليوم في دولة مفترسة مع عدد كبير من الجماعات الدينية والطائفية ومجتمع مدني معقد، لقد ظلت الأيديولوجية البعثية القومية العربية في الستينيات من القرن الماضي وعلى الرغم من إعادة تشكيلها لتكون بمثابة خزان للهوية السورية العابرة للطوائف؛ بقيت مصدراً ضعيفاً للهوية وقد فقدت مصداقيتها بسبب سوء إدارة الأسرة الحاكمة.

لم ينتج أي مجتمع من بلدان الربيع العربي زعيماً سياسياً قوياً؛ فالقيادة القديمة إما تمسّكت بالسلطة كما هو الحال في سوريا، أو عادت للظهور كأبطال عديمي الرحمة كما في مصر .. لكن على النقيض من ذلك؛ كان الرئيس الأوكراني المنتخب بحرية "فولوديمير زيلينسكي" قادراً على حشد الأوكرانيين خلف "العلم" من خلال شجاعته ومصداقيته؛ لقد أبقى نفسه ومعظم أنحاء البلاد على قيد الحياة ليس فقط بالسلاح ولكن من خلال الاستخدام الإبداعي للقوة الناعمة والتواصل الإستراتيجي جزئياً باللغة الروسية والخطب التي لا تعرف الكلل والمصممة جيداً للبرلمانات الدولية ضد معتدٍ يستخدم القوة الخشنة فقط ويبدو وكأنه عفا عليه الزمن .. لكن في سوريا وعلى النقيض من ذلك وحتى في ساحة المعركة؛ كانت جماعات المعارضة السورية مجزأة ومنظومة أيديولوجياً إلى حد كبير، وأصبحت في النهاية تعتمد على رعاة أجانب، ونظراً لغياب "الغرب"؛ تم تمويل جماعات المعارضة المسلحة على الأرض من قبل جهات مانحة في العالم العربي أو تركيا حيث تتحالف كل دولتين في سوريا وفق سياسات تكتيكية آنية ثنائية مخصصة بينهما، بينما تتنافسان في آن مع بعضهما؛ سياسات تكتيكية آنية ثنائية مخصصة بدلاً من صياغة إستراتيجية مشتركة ناهيك عن هوية مشترك للمعارضة السورية من قبل هؤلاء المانحين.

فشل القوة الناعمة لروسيا

على المسرح السوري؛ أهدرت روسيا فرصة فريدة لترسيخ نفسها كصانع سلام أو تطبيق قانون من نوع ما في سوريا والمنطقة؛ لقد كان الدبلوماسيون الروس حريصين على رعاية مثل هذه السردية لدورهم: رعاية المحادثات السياسية في الأمم المتحدة في عام 2016، وإنشاء صيغة أستانا في عام 2017، وتنظيم "مؤتمر المصالحة" في سوتشي في عام 2018، وحث الأمم المتحدة على متابعة المناقشات الدستورية في جنيف، والضغط على الغرب لتحقيق إعادة الإعمار ومتابعة التطبيع؛ لقد كانت جميع هذه الرسائل والجهود السياسية القوية مصممة لتقديم روسيا ليس فقط كقوة عسكرية وطرف في الحرب، وكان لديها أسباب وجيهة للقيام بذلك؛ فقد أرادت خفض تكلفة انخراطها في سوريا بالوسائل السياسية، لكن مع ذلك كان هناك عيب رئيسي واحد في هذه الإستراتيجية: انتهاك روسيا الهائل للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان من خلال تحالفها ليس فقط مع نظام الأسد ولكن أيضاً من خلال تبني أساليبه في الحرب، فحولت نفسها إلى لاعب سياسي غير مقبول .. وفي ضوء الطريقة التي يتصرف بها الجيش الروسي في أوكرانيا؛ فقد أصبح هذا أكثر وضوحاً.

في سوريا؛ خاضت روسيا حرباً وحشية كما لو لم تكن هناك مفاوضات، وضغطت في الوقت نفسه على المفاوضات كما لو أنها لم تشارك بنشاط في الحرب، لقد أرادت روسيا تعزيز قوتها من خلال المساهمة في تسوية سورية لكن بشروطها الخاصة، لذلك شاركت في جميع المجالات في الأدوار القيادية، وهكذا وبفضل الدور السياسي والدبلوماسي المتدهور للولايات المتحدة سمح الصراع (أو الصراعات) في سوريا لروسيا - بعد وصمة العار الناتجة عن أزمة أوكرانيا في عام 2014 – سمحت لروسيا بالعودة إلى مستوى نظر مكافئ مع الولايات المتحدة .. لقد كانت المكاسب طويلة المدى في النفوذ الجيوسياسي وكذلك استعادة الكبرياء الوطني من النتائج الأساسية للجانب الروسي، ومع ذلك كان الانتهاك الصارخ لمبادئ القانون الدولي وخلق معاناة إنسانية هائلة هو ما حال دون نجاح طويل الأمد لتطلعات روسيا السياسية العالمية فيما وراء الصراع السوري.

لو كانت روسيا قد ضبطت نفسها ونظام الأسد عسكرياً، ولو لم تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد الإجراءات المتعلقة بالمبادئ الإنسانية الدولية وحقوق الإنسان، ولولا شكوكها في نتائج الأمم المتحدة بشأن استخدام النظام للأسلحة الكيماوية؛ حتى لو فعلت كل ذلك لكانت قد انتصرت في الحرب في سوريا من خلال القوة العسكرية والالتزام، علاوة على ذلك؛ كان من الممكن أن تحصل موسكو على فرصة التحول بسلاسة من طرف في الحرب إلى صانع سلام يُنظر إليه في المرحلة اللاحقة من الصراع.

كثيرون في المعارضة السورية فضلوا دوراً روسياً في سوريا على دور إيراني، لكن روسيا أضاعت فرصتها في ترسيخ قوتها الناعمة في سوريا ودولياً من خلال أشكال انخراطها، . لو فعلت ذلك من الناحية العملية لكانت روسيا قد خففت من أعبائها في سوريا لأنها كانت ستجعل الاستقرار الدولي ودعم إعادة الإعمار ممكناً، وكان من الممكن أن تلعب روسيا دوراً في تحقيق استقرار كان من الممكن أن يقدّره حتى الغرب المشلول والمتردد.

الخليج الفاصل بين المؤسسات العسكرية والدبلوماسية الروسية

قد يكون أحد أسباب السلوك الروسي هو الهوة بين المؤسسات العسكرية والدبلوماسية الروسية والتقاليد؛ فقد كان التنافس بين وزارتي الدفاع والخارجية واضحاً طوال الصراع السوري، وقد ظهر بشكل أكثر وضوحاً خلال الحرب الأوكرانية .. لقد ظهرت بالفعل العلامات الأولى؛ فبما أن سوريا وأوكرانيا مناطق حرب فإنهما في نطاق الجيش ومنطقه وليسا في أيدي الدبلوماسيين في المقام الأول .. خلال المشاركة السورية تعامل الرئيس بوتين الذي يمثل العمود الوحيد في الخيمة مع كلا النهجين في وقت واحد؛ لكن عندما يأتي وقت "ضرب المعول"  تظهر التجربة أنه يميل إلى استخدام القوة الصلبة بدلاً من القوة الناعمة.

يعكس سلوك بوتين الاتجاه العام بأن القوة الصارمة مكرسة في الثقافة السياسية للكرملين اليوم، وأن الدبلوماسيين ليس لديهم رأي يذكر، وضحايا هذا النهج هم مدنيون سوريون وأوكرانيون ومبادئ القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان التي اكتسبناها بشق الأنفس، أيضاً هناك ضحية أخرى هي أيضاً الشعب الروسي الذي سيكافح لعقود من أجل التغلب على العزلة الاقتصادية ووصمة جرائم الحرب الجديدة التي ارتكبت في الحرب الأوكرانية والتي تحول الروس من ضحايا ومحرري أربعينيات القرن الماضي إلى جناة في عشرينيات القرن الحالي .. لقد تقلصت قدرة روسيا على التصرف ليس فقط كطرف في الحرب، ولكن أيضاً كصانع سلامٍ ذي مصداقية دولية وإنفاذ للقانون، سواء كان ذلك في سوريا أو في أي مكان آخر، تقلصت قدرتها في هذا المجال إلى الصفر، على الأقل في المستقبل المنظور.

أيضاً من المفارقات، فإن بوتين في محاولته منع أي بيئة دولية تكلفه أي ثمن عبر تدخلات إنسانية تقدمية أو مبدأ مسؤولية الحماية - وهو مبدأ دُفن تحت الأنقاض السورية والأوكرانية - فإن نهجه (أي بوتين) الإمبريالي الستاليني الجديد قد جعل مبدأ الحماية أكثر أهمية من كلا المنظورين الإنساني والقانوني، وهذا ليس مهماً من الناحية الأخلاقية فحسب؛ بل أيضاً للحفاظ على أهمية ووظيفة الأمم المتحدة وقدراتها في صنع السلام، ومصداقية قيمها العالمية - والبشرية - وقاعدة التعايش بين الدول والشعوب بحرية وكرامة .

___________________________________ 

• الدكتور كارستن فيلاند Carsten Wieland  .. هو من كبار مستشاري الأمم المتحدة سابقاً، ودبلوماسي ألماني، وخبير في شؤون الشرق الأوسط والصراع،  وهو أيضاً زميل مشارك في مركز جنيف للسياسة الأمني،  (GCSP) ومساعد في مركز PRIO الشرق الأوسط في أوسلو .. نُشر كتابه الأخير "سوريا وفخ الحياد: معضلات تقديم المساعدة الإنسانية من خلال الأنظمة العنيفة" في تموز / يوليو 2021.

• الآراء تخص الكاتب ولا تمثل أي مؤسسة. الموقع الإلكتروني: www.carsten-wieland.de

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات