قصة حي التضامن: سورية الصغرى التي كانت!

قصة حي التضامن: سورية الصغرى التي كانت!

نكأ فيديو صحيفة "الغارديان" البريطانية الذي نشرته  في 27 نيسان المنصرم، والذي يكشف عن مذبحة تم ارتكابها في حي التضامن جنوب دمشق، حيث جرى إعدام مجموعة من المدنيين وإلقاؤهم في حفرة وحرق جثثهم، نكأ جرح الحرب السورية الذي لم يندمل بعد.. فما قصة حي التضامن؟. 

سورية الصغرى

حي التضامن، أو كما يحلو للبعض تسميته بـ"سورية الصغرى" كناية عن أن الحي يجمع السوريين من كافة المناطق والقوميات والطوائف، حيث لم يكن للحي شبيه في كل أرجاء دمشق، مع أن الأحياء الجنوبية، القدم والحجر الأسود، والشمالية برزة والقابون، كانت مختلطة، لكنها لم تصل إلى حجم الاختلاط الذي كان في التضامن، وبنفس القدر انطوى التضامن على طيف سياسي واسع، حيث اجتمع فيه اليساري والإسلامي والقومي والبعثي.

عشية الثورة، كان التضامن وطناً لأكثر من ربع مليون نسمة، وكان الحي قد تأسس في منتصف ستّينات القرن الماضي، حيث سكنه في البداية أبناء قرى السويداء، الذين سُمّيت مناطقهم باسم" حارة الدروز"، وبعد سقوط الجولان بيد الاحتلال الإسرائيلي لجأ للحي التركمان النازحون من القنيطرة، وعلويّو قرى عين فيث وزعورة.

في بداية السبعينات بدأ الحي يتوسّع ويستقطب أعداداً كبيرة من الحالمين بالعيش في العاصمة أو الباحثين عن فرص عمل فيها، وكانت للحي جاذبية خاصة كونه يقع ضمن المخطط الإداري لدمشق ولا يبعد عن مركز العاصمة سوى دقائق في الحافلة، وهكذا سكنت في الحي عائلات من درعا وإدلب ودير الزور وحمص واللاذقية وطرطوس، كما أصبح الحي متداخلاً بدرجة كبيرة مع مخيم اليرموك، بل أصبحت أجزاء منه رديفاً ديمغرافياً للمخيم، حيث سكنت العديد من العائلات الفلسطينية فيه.

أصول فلاحية أو مدينية فقيرة

عشيّة الثورة أيضاً، كان التضامن مقسّماً إلى عدة أحياء "حارات": حارة الأدالبة، حارة الديرية "دير الزور"، حارة البانياسية "بانياس"، حارة التركمان، حارة السمعولية "الطائفة الإسماعيلية"، وشارع نسرين الذي ضمّ العلويين من قرى الجولان وعائلات من اللاذقية وطرطوس وحمص، بالإضافة إلى حارة الدروز"شارع الجلاء"، وحارة الشوام، الدمشقيون الذين لفظتهم أحياء العاصمة، فيما سكن الفلسطينيون والحوارنة في المناطق الملاصقة لمخيم اليرموك "شارع المالكي"، بالإضافة إلى بعض الأكراد.

اجتمع سكان التضامن، بمختلف أطيافهم، على صفتين: الأصول الفلّاحية لأغلبهم، بسبب قدومهم من الريف واستمرار ارتباطهم به، ولم يُخفِ الناس أصولهم هذه، فكان من السهل معرفة ذلك من خلال عاداتهم وتقاليدهم وأسواقهم وأذواقهم في الملبس وأساليب تعبيرهم عن ذاتهم، والفقر هو الصفة الثانية التي تشارَكَ بها أبناء المنطقة، ويدلّ على ذلك بوضوح فقر الأسواق واقتصارها على الضروريات، واعتماد سكان المنطقة على أسواق مخيم اليرموك المجاور.

لكن كان هناك اختلاف واضح بين هذه المكوّنات ناتج عن أساليب تحصيل الرزق وبالتالي الهوية المهنية لأفراد هذه المكوّنات، التي أصبحت صبغة لكل مكوّن، فغالبية العلويين كانوا موظّفين في أجهزة المخابرات، والأدالبة والبانياسيون باعة في الأسواق، والإسماعيليون موظفون في التدريس وبعض الوظائف الأخرى، والحوارنة والشوام أصحاب دكاكين ومحلات، فيما اعتمد الدروز اقتصادياً على وظائف الدولة وتحويلات ذويهم في المغتربات.

ورغم أن أجيالاً عدّت وُلِدت وعاشت في التضامن ولم تعرف مكاناً آخر غيره، إلا أن العلاقات بين مكوّناته ظلت علاقات حذرة وعند أدنى حدودها، وشكّلت هذه المكوّنات ما يشبه غيتوات مغلقة، حيث يندر الاختلاط بينها، باستثناءات بسيطة حصلت في المناطق التي تأسست ما بعد الثمانينات وذلك بسبب إنشاء الأبنية التجارية الحديثة والضخمة، والتي سكنها في الغالب أشخاص عملوا في دول الخليج، أو دمشقيون باعوا أملاكهم بدمشق بعد توسّع العوائل، أو فلسطينيون عملوا مع الأونروا وحصلوا على تعويضات جيدة وفضّلوا الإقامة بالقرب من ذويهم في مخيم اليرموك.

التوتر في المقلب العلوي 

بعد احتلال العراق عام 2003 وانطلاق الصراع الشيعي- السنّي، وانتقال هذا الصراع إلى لبنان "معارك طرابلس واغتيال رفيق الحريري"، ومشاركة بعض الشباب من حي التضامن في حرب العراق، بدأ الفرز الطائفي يعبّر عن نفسه بوضوح في حي التضامن، إذ بالإضافة إلى تحوّل الأحياء إلى لون طائفي موحَّد، بدأت العلاقات تأخذ طابعاً أكثر حذراً، حيث ازدادت نسبة التديّن بين المكوّنات السنّية في المنطقة، فيما تحوّل العلويون إلى مُخبِرين، حتى أصحاب المحالّ والوظائف العادية جرى تجنيدهم لدى أجهزة المخابرات، وما زاد الأمر سوءاً إجراءات أجهزة المخابرات تجاه المكوّنات الأخرى، والاعتقالات الواسعة التي كانت تُجريها بين أوساط السكّان السنّة، وبدا دور العلويين واضحاً بها.

وعندما بدأ الربيع العربي، وقبل انطلاق الثورة السورية، بدا التوتر واضحاً في المقلب العلوي من حي التضامن، ففي حين كان بقية السكان يعبّرون عن فرحهم بانتصار الثورة في تونس ومصر، كان علويّو التضامن يهيّئون أنفسهم لتطور قادم، تطوّر تصوّروا أنه سيغيّر المعادلات القائمة في الحي، والتي تأسست على مدار عقود على الرهبة، حيث كان العلويون هم الطرف المسلّح بحكم انتمائهم للأجهزة الأمنية، وهذا الأمر جعل مناطقهم مَهيبة من قبل الآخرين.

ثمة ملاحظة يتوجّب إيرادها في هذا السياق للاستفادة منها في تحليل التطورات اللاحقة، وهي أن غالبية علويّي حي التضامن هم من قرى الجولان، وهؤلاء في نظر العلويين يشكّلون أدنى درجات العلوية، التي يقف الجبلاوية "أهل جبلة وقراها" في أعلى سلّم درجاتها، بحكم انتماء الرئيس ومعظم قادة الأجهزة الأمنية والفرق العسكرية لهذه المنطقة، وثمّة سبب آخر هو عدم خضوعهم للعبودية للإقطاعي السنّي في زمن الإقطاع،  ثم الطراطسة "أهل طرطوس" الذين يعتبرون أنفسهم الأكثر رُقياً وأصالة من بقية العلويين، ثم في درجة أدنى بقية قرى جبل العلويين في اللاذقية وحماة وحمص، وفي المرتبة الأدنى يقع علوية قرى إدلب والغاب بسبب فقرهم وعملهم لدى السنّة في مشاريعهم الزراعية ووجود حالات تزاوج بينهم وبين السنّة، أما علويو الجولان فهم في الغالب كانوا غير مرئيين من قبل قيادات السلطة ومهمَّشين بدرجة كبيرة وشبه غير معترف بهم، وسيلجأ هؤلاء إلى أقصى الأساليب المتطرفة ليثبتوا أنهم يستحقّون صفة العلوي.

ميليشيات علويّي التضامن: سلطة مُطلَقة! 

كان التضامن، بحكم تهميشه من قبل الدولة، ومعاناة سكانه التي وصلت إلى حد الاضطهاد من قبل الأجهزة الأمنية، أكثر المناطق التي شاركت في الثورة، إذ إن غالبية المظاهرات التي شهدها حي الميدان الدمشقي العريق كان شباب التضامن هم عمادها الأساسي ومكوّنها الأغلب، كما احتضن التضامن باكراً أعداداً من العسكريين المنشقّين الذين شكّلوا نواة "الجيش الحر"، كذلك استقطب أعداداً كبيرة من الفلسطينيين المؤيدين للثورة السورية.

إزاء ذلك، أنشأت الأجهزة الأمنية ميليشيات رديفة لها من علويي التضامن، وأمدّتهم بأسلحة خفيفة ومتوسطة، وقاموا بإنشاء الحواجز على الطرقات التي تربط مناطق التضامن، ومنحتهم سلطات مطلقة في الاعتقال والمحاكمة دون الرجوع للمؤسسات، وفرزت قيادات لهم من الأفرع الأمنية، هم في الغالب من خارج المنطقة.

لقد ساهمت سياسات النظام السوري بدرجة كبيرة في إبراز البُعد الطائفي في حي التضامن، الذي هو فعلاً صورة مصغّرة عن سورية، فقد أشعرت المكوّن السنّي أنه عدوّها الذي يتوجّب اصطياده ورميه في حفرة، في الوقت نفسه جعلت العلوي يشعر بأنه إزاء حرب وجودية، إما قاتل أو قتيل، وكان الهدف من شدّ العصبية الطائفية إلى أقصاها إنقاذ نظام الأسد من السقوط.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات