رحيل محمد عدنان سالم: أسس أهم دار نشر إسلامية ورحل دون أن ينال أي تكريم في وطنه سوريا!

رحيل محمد عدنان سالم: أسس أهم دار نشر إسلامية ورحل دون أن ينال أي تكريم في وطنه سوريا!

برحيل الناشر السوري محمد عدنان سالم مؤسس (دار الفكر) تفقد ساحة النشر الإسلامية في سورية بلا شك، واحداً من عمالقة النشر في سوق الكتاب.. استطاع منذ خمسينات القرن العشرين أن ينطلق بقوة، وأن يتأقلم مع مصائب انقلاب البعث، ومع عسف وتوحش مخابرات الأسد وطائفية حكمه، ومع تلك الهجمة الشرسة التي طالت دور النشر الإسلامية في سورية في ثمانينات القرن العشرين، وأغلقت العديد منها، واقتادت العديد من الناشرين والمؤلفين إلى أقبية المخابرات ليموت العديد منهم تحت التعذيب. 

التوازن الحرج! 

كان محمد عدنان سالم الذي أسس دار الفكر للطباعة والنشر في دمشق عام 1957 بمشاركة الأستاذين محمد وأحمد الزعبي، كان خلال كل تلك العهود كلاعب سيرك، على حبل توازن دقيق ومشدود خشية أن تزل قدمه مع نظام همجي لا يفهم حضارة ولا كتاباً ولا رأياً أو اختلاف رأي.. وإني لأذكر، وكنت في سني يفاعتي الأولى من المدمنين على التردد إلى مكتبة دار الفكر التي كان مقرها في شارع سعد الله الجابري، قرب ساحة الحجاز، في ذات المبنى الذي تشغله شركة الطيران العربية السورية منذ سنوات، كيف اقتحمت مجموعة من عناصر المخابرات المكتبة الواسعة المساحة في ثمانينات القرن العشرين، بطريقتهم الهمجية المخيفة طالبين من البائع الدخول معهم على الفور إلى المستودع للتفتيش.. وعندما لم يجدوا كتباً ممنوعة، ألقوا تحذيراتهم الفظة بوجه الرجل الوقور الذي كان يشرف على البيع ومضوا. 

لقد شكلت (دار الفكر) حالة مختلفة عن باقي دور النشر الإسلامية المعنية فقط بإعادة نشر كتب التراث الديني، أو بعض المؤلفات التي تتناول مسائل دينية أو فقهية أو تراجم وسير إسلامية بشكل مكرور ومعاد. كانت دار الفكر تهتم بهذا بطبيعة الحال، لكن أفقها كان أوسع بكثير.. فقد كانت تنشر كتباً في التاريخ وعلم الاجتماع والعمران وسير الأمكنة والمدن والبلدان، وأذكر أن كتباً مثل (عشائر بلاد الشام) لوصفي زكريا، وسلسلة (أعلام التاريخ) للشيخ علي الطنطاوي، و(القلاع أيام الحروب الصليبية)  لفولغانغ مولر فينر، و(دمشق في نصف قرن) و(معجم المعارك الحربية) لماجد لحام.. كانت مبهرة لي وللكثيرين بغنى وفرادة محتواها والصور المرفقة بها حين أصدرتها الدار في نهاية سبعينات وثمانينات القرن العشرين... وكانت الدار تهتم بالأدب إنما في حدود ضيقة، نظراً لكون معظم الإنتاج الأدبي السوري يساري الهوى منذ سيطر البعثيون والشيوعيون على الساحة الثقافة السورية.. وربما استمدت (دار الفكر) قوتها وأهميتها لدى شرائح واسعة من السوريين، أنها كانت ملاذاً لكارهي ثقافة اليسار، ولم تكن بالضرورة ملاذاً دينياً، بل ملاذاً معرفياً هامّاً ومتوازناً.. ولهذا اجتذبت العديد من الكتاب المرموقين كالدكتور صباح قباني الذي نشرت له دار الفكر مذكراته (من أوراق العمر) ثم (كلام عبر الأيام) والدكتور إبراهيم حقي عميد كلية الطب الأسبق في جامعة دمشق الذي نشرت له كتابه الضخم الباذخ الذي ينوف عن الألـف صفحة، والذي حكى فيه سيرة مدينته وسيرته (دمشق في ثمانين عاما) وصدر عام 2017، كما نشرت للأديب خيري الذهبي العام الماضي 2021 عملاً أدبياً هاماً عن دمشق هي (الجنة المفقودة من القنوات إلى بساتين كفرسوسة). 

احتضان مفكرين وصناعة توجهات

مع مرور السنوات وتعاقب العهود، صار لدار الفكر توجه تنويري واضح.. يتبنى المفكرين الإسلاميين المعاصرين، والشيوخ المجددين لا الناقلين الذين يجترون بطون أمهات الكتب دون إضافة. وصارت دار الفكر موطن هؤلاء المفكرين والمجددين، طبعت كل مؤلفاتهم أو أعادت طباعتها.. فعرفتنا إلى إنتاج كل من: 

- الشيخ علي الطنطاوي

- المفكر الجزائري مالك بن نبي 

- المفكر السوري جودت سعيد 

- الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي 

- الشيخ وهبة الزحيلي 

- المفكر عبد الوهاب المسيري

من دون أن ننسى مؤلفات المؤرخ الفلسطيني السوري شوقي أبو خليل، الذي شغل منذ عام 1991 وحتى رحيله عام 2010 منصب مدير التحرير في الدار، والذي أغنى منشورات دار الفكر بمؤلفاته التي جمع فيها بين دراسته الأكاديمية للتاريخ وتدريسه الجامعي له، وبين إيمانه العميق بالذود عن التاريخ الإسلامي مما كان يراه محاولات الدس والتشويه والتلفيق، وخصوصاً في سلسلته (في الميزان) التي ابتدأها عام 1981 بـ(جرجي زيدان في الميزان) ليشن هجوماً عنيفاً على رواياته التي تناولت شخصيات التاريخ الإسلامي متهماً إياه بالتلفيق والافتراء وغياب المرجعية الموثقة وهو ما ركز عليه أيضاً في (فيليب حتي في الميزان) 1985 و(كارل بروكمان في الميزان) 1987 و(غوستاف لوبان في الميزان) وسواهم.

جوائز عربية وتجاهل سوري 

كانت (دار الفكر) ثم توأمها (دار الفكر المعاصر) في بيروت، مؤسسة للفكر والمعرفة والتنوير، عبرت عن التوجه الإسلامي في النشر في أرقى نجاحاته، فكانت كتبها موثوقة علمياً، أنيقة طباعياً وإخراجياً، بل هي مثال يحتذى في أناقة الإخراج وجودة الطباعة..  وقد أصدرت خلال أكثر من ستة عقود من عمرها أكثر من (2500) عنوان. لكنها بالطبع لم تكرم من قبل أي مؤسسة رسمية سورية، ولكنها حصدت جائزة أفضل ناشر عربي من الهيئة العامة المصرية للكتاب 2003، وحصدت إصداراتها أربع جوائز من مؤسسة التقدم العلمي في الكويت عن كتابيها: الجراحة التنظيرية 2000 وآفاق القرن الحادي والعشرين، وهروبي إلى الحرية (في مجال الترجمة)، وعن كتابيها: موجز تاريخ الكون، والجينوم البشري وأخلاقياته (في مجال التأليف في العلوم)

أما الناشر محمد عدنان سالم المولود في دمشق عام 1932 والذي درس الحقوق في جامعة دمشق وتخرج عام  1954 وعمل في المحاماة والتعليم فترة قصيرة قبل أن يتجه إلى النشر. فقد ألف العديد من الكتب  العديد من الكتب، أبرزها: (هموم ناشر عربي) الذي صدر عام 1994 و (على خط التماس مع الغرب) و(القدس ملامح جيل يتشكل) و(القراءة أولاً) و(حرية النشر وإشكالية الرقابة على الفكر)... كما وثق جزءاً من سيرته الشخصية وسيرة دار الفكر في كتابه (عاشق الفكر والثقافة) الذي صدر عام 2016 بمناسبة مرور ستين عاماً على تأسيس دار الفكر.

شغل محمد عدنان سالم بين عامي (1991-2011) رئاسة اتحاد الناشرين السوريين وكان نائباً لرئيس اتحاد الناشرين العرب بين  2006-1995 ورئيس اللجنة العربية لحماية الملكية الفكرية 2006-1995 ورئيس الجمعية السورية للملكية الفكرية 2008-2010 ورئيس الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال 2008-2011 وعضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية 2016.

على مرّ تسعين عاماً من عمره المديد، قدم محمد عدنان سالم قصة نجاح وثبات واستمرار تستحق التقدير والإعجاب سواء كنت متفقاً مع توجهه الفكري أو مختلفاً معه، مثلما شكلت (دار الفكر) علامة فارقة في مسيرة الكتاب والنشر في سورية.. دون أن ينال هو ولا المؤسسة التي انتقلت إلى مبنى طابقي ضخم في منطقة البرامكة بدمشق مواصلة مسيرتها الدؤوبة، أي تكريم من أي مؤسسة ثقافية سورية في عهد حكم البعث والأسد. 

التعليقات (1)

    Raed

    ·منذ سنة 10 أشهر
    Sehr interessant
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات