يغتال الموت المؤدلج جسد المجموعة القصصية "حروب صغيرة" وهي أول نتاجٍ مطبوع للكاتبة نسيبة المطلق، صادرة عن دار هدوء للنشر العام الماضي، وتقع المجموعة في إحدى وثلاثين قصة قصيرة، لكنها وفي مجموعها تبدو استدراجاً مكيناً إلى تلاوة فصول الخيبة المعروفة والانكسار المجتمعي العام، واستعراضاً لعتبات العدم من رواقه البارد، فالتبرؤ من الحياة هو سمة معظم المضمون القصصي، والحرب المبثوثة في جسد المجموعة القصصية ما هي إلا الحربُ التي سوّقها النظام السوري ليقنع أتباعه بها، وليتبرّأ في آن من فلسفة قتله وإذلاله للناس أينما حلّ وحلَّ أتباعه معه.
الحرب في محميةٍ طبيعية تديرها الكاتبة
تتعارك القصص داخل مجموعة نسيبة المطلق، لكنها تتناسل من جبهةٍ واحدة ذاتِ معنًى واحد، فتبدو وكأنها مغشيٌّ عليها لسبب ما، إذ إنها مطهوّةٌ بأقدار متساوية من المصائر السوداء، حيث تتكرر لفظات الحرب، والخدمة العسكرية، والانفجار، وإطلاق النار، ذاك الكرنفال من التشابه الذي لا ينتهي، وتؤسس عليه الكاتبة خطّها القصصي المنكوب بغياب وموت أبطال قصصها على الجبهات المنهكة بإحصاء قتلاها، أو التي تستعير مزيداً من الجثث التي تُلقى بلا مبالاةٍ أمام عتبات المنازل، أو التي تحجز مصائرَ أحبة في موتٌ لا ينتهي. كما تظهر المجازات قليلةً في بنية بعض القصص مثل: "أحاول تقطيع الليل بساقي ورصاص بندقيتي" في قصة الغفران، وفي رسائل نصية "عندما سقطت قذيفة قربي، سقط قلبي هلعاً"، وفي قصة ساحة الانفجار "القذائف في كل مكان، والخوف ظلُّ الناس يهرول معهم في الأماكن كلها"، وفي قصة حريق في الكنيسة "النار تملأ السماء كوردة حمراء متفجرة حيوية وجبارة"، وفي قصة جندي ورصاصة "يستفز وحش الألم ضلعي وكتفيَّ المكسورين".
ثم تبحث الحرب كما تراها المطلق عن نسبٍ واضح لها في بنية المجموعة القصصية، فهي تتضمن معنى الخذلان في قصة الغفران حيث يخذل بطل القصة زميله الجندي ويتركه يموت على أيدي "الآخرين"، وفي قصتي رسائل نصية واعتذار الحربُ تعني الفزع من بذار القذائف التي تعيد سرد حكاية المكان، أو تعيد تصويب رائحة الحواس كما في قصتي شجرة زيتون منسية ورائحة الفانيلا، أو أنها تلوي عنق مصائر الأحياء كما في قصص مكالمة هاتفية، ولا ترحل بدوني، وخطوبة، أو تكون خوارزمية للبقاء يجدر حلّها كما في قصص كيف أخبرها، وتفاصيل.
أرض النظام مندهشة بقراءة الموت
في قصص مثل: (ساحة الانفجار)، و(أصنام على قيد الحياة)، و(جندي ورصاصة)، لا ترتدي الكاتبة مزيداً من التلكؤ الإيحائي في صناعة الحبكة، والذي اعتادته في بناء قصص أخرى تزاحمت داخل مجموعتها، نقرأ من قصة ساحة الانفجار:... فأيام معدودة ويصبح خارج هذا القبر الضخم، الذي كان يسمى في يوم من الأيام وطناً…
ونقرأ من قصة أصنام على قيد الحياة:... كان قد جهّز طقوس موته، ولكن لم يتعلم كيف للمرء أن يجهّز طقوس موت وطن...
كما نقرأ في قصة (جندي ورصاصة):.. لم أكن ساعتها مهتماً بالتغني بحب الوطن، وترديد الكلمات الفارغة عن الواجب والتضحية…
تستعير شخصيات المجموعة القصصية الموت لتنجو من جحيم الحياة، فتارةً تتغذّى برصاصة قناص، وتارةً بقذيفة هاون، وحيناً بسيارة مفخخة. فالموتُ نجاةُ الشخصيات الوحيد، وإن بحثنا عن مصدره، سنجده مبثوثاً من قبل الإسلاميين أعداء النظام المفترضين في حربه المزعومة. في قصة مدينة فراس يأخذ أشخاص بلحىً طويلة والدَه ليلاً بتهمة الخيانة، وبعد أيام يلقون بجثته أمام البيت، أو في قصة لا ترحل بدوني يخطف ملثمون الأخ الأصغر لبطل القصة أثناء خدمته العسكرية، وفي قصة حريق في الكنيسة يتجولون في الشوارع، يحملون سلاحاً هائلاً، مناظرهم مضحكة لحاهم طويلة مسترسلة، وفي قصة لقاء عند القبر يحيط بهم عدد كبير من الرجال الملثمين، بلحىً طويلة ووجوه عابسة.
في تقنيات القصّ وبناء فضاءاته والحبكة
المدينة لدى المطلق هي مرادفٌ متورط بمعاني القسوة، نقرأ في قصة (وسيم وكيس القمامة):.. يسير صباحاً يومياً في شوارع مدينة نصف متهدمة ونصف حية، ولكن الأكيد أن الذي لم يتغير هو قسوتها. وفي قصة (مدينة فراس):.. وعندما وصلنا المدينة، وجدنا المدينة مغلقة، لم يُفتح لنا باب. وفي قصة المدن المغلقة:.. مدننا مغلقةٌ وقاسية وحائرة لأنها مرآة روح عميقة مثقلة بأوهام المثالية كلها ونسيت الإنسان خلف قفص مغلق على ذاته، وفي قصة مدينة هاربة من الجحيم:.. جدران البيوت تتألم، وألمها يصل لأعماقي، وشوشتني أن السقم جاء من أنفاس البشر، فهي تنفخ السواد دوماً.
الأشياء لدى نسيبة المطلق قد تكون أبطالاً لقصصها، كما في قصة (وسيم وكيس القمامة)، و(إشراقات بالون أصفر)، و(يا صاحب القبر)، و(مدينة هاربة من الجحيم)، و(عطش)، حتى الطيور تصير محور القصّ كما في قصتها (انهيار منزل الديك). ثم إن الاقتياد إلى الخدمة العسكرية في جيش النظام يكون هو مصير معظم أبطالها، وتكاد تغيب الحوارات داخل المجموعة القصصية باستثناء قصة (لقاء عند القبر)، حيث حضر الحوار بقوّة كأحد مكونات الحبكة القصصية الهامة جداً.
ولم تجتهد الكاتبة في ابتكار تمايز في صناعة الحبكات بين قصة وأخرى، فنجدها وقد ألبست أغلب قصصها القياسات ذاتها التي أنشأت منها "نموذج حبكة واحد" وعممته، إذ غالباً ما استأثرت الحرب بدلالاتها عند كتّاب النظام السوري بمصائر أبطال قصص المجموعة، ولم تكن الكاتبة موفّقة بصناعة ذرى لنموذج الحبكة الواحد الذي اعتمدته وركنت إليه، بل استعانت بالموت ليكون الذروة والعقدة الدرامية والحل في آن لمعظم قصصها، وفي ذاك استسهال لصناعة القصة القصيرة، ليجعل منها خاطرةً نثرية بعيدة عن التصديق.
التعليقات (0)