لماذا حركتنا حفرة التضامن وأثار اشمئزازنا "العفو" عند المجزرة؟!

لماذا حركتنا حفرة التضامن وأثار اشمئزازنا "العفو" عند المجزرة؟!

أستغرب تماماً كيف حرّكت حفرة التضامن كل هذا الركود، ألم تكن حلقة في سلسلة حفر وإعدامات؟!

لقد توصلت مع كل ذلك الكم من النسيان إلى أن بنية فكرية ونفسية جماعية تحتاج إلى تبديل وتغيير جذري، وأن الشهود الأحياء بمعجزة قد فقدوا دورهم كنموذج وحيد وحيّ على ممارسات التعذيب والموت، وقد يراودني تفكير يبدو للوهلة الأولى ينتمي الى مدرسة المؤامرة، والتي طالت تماماً انتماءنا إلى روح الكون.

وهنا تبدو عمليات ممنهجة لعقائد متنوعة. حولتنا كشعب إلى روبوتات من لحم ودم، فاقدة القدرة والحرية، وانتابنا إيمان وهمي أن كل ما لانراه غير موجود وأن روايات الخارجين من الجحيم تحتاج إلى (أربعة شهود واستبيان خيط الليل من النهار وقت الحدث) وإضافة أخرى تقتضي أن تكون أدوات التعذيب وآلات القتل قد لامست الأجساد وانغمست في الدم واللحم وشلعت الروح تحت وطأة القتل المباشر. أو بعد حين، وكلما أخلص ضميرك مذكراً إياك بهول وفظاعة نهرته مطمئناً أنك لم ترَ ولم تسمع.

حفرة التضامن وبرودة القتلة الجليدية هي المشهد الشيطاني الأقل بشاعة، والأداء الأكثر رداءة في الطقوس، وقد يبدو خروجاً عن السياق الذي اعتمدته مدارس القتل والتعذيب في هذه البلاد.

ورغم ذلك الجمهور الذي فقد الذائقة انفعل أمام المشهد المباشر لقتلى وحفرة وضحايا من أعمار مختلفة وعينة عشوائية لمواطنين سكنوا تلك المنطقة المنكوبة أصلاً بمحن النزوح واللجوء والفقر.

التضامن، الحي الذي تحدّر من سلالات محلية ومجاورة والذي يجعلك دائما تتساءل أين ذهبت الحياة عن هؤلاء، وعلى التوازي يراودك سؤال ألم يكن هذا الحي في قلب دمشق لكنه الأبعد إنسانياً وطبقياً عن أماكن ممتزجة الأصول والتاريخ والأهداف.

التضامن كان حفرة  وقدراً متعرجاً وُلد في رحم الأزمات والنكبات الوطنية والقومية وبقي لا يزن في ذهنية السلطة إلا وزن أوراق ممزقة عتيقة في زوبعة.

بعض الجنود الذين فقدوا شعور الوجدان الوطني ودخلوا تلك الليلة بحالة من الهذيان والهوس الطائفي مع مشهيات من المخدرات ووجبة من العقائد التي تحلل وتحرم من خلال عقول وضمائر ومسالك ثقبت وتهالكت حتى أصبحت لا تبقي على مثقال ذرة من إنسانية وهوية ووطن.

وإذا كان الأغلب سيقول كنا لانعلم، تصاب بالدهشة، كيف أفلحت الطغم في إفقادنا حتى حواسنا الأولى الجمعية والتي تملك هبة المشاعر بالظلم والقهر، والأكثر إدهاشاً هو كيف تابع المثقف حياته وكأن الأمر لايحدث أبداً.

وعندما كنت أتجرّأ لأحدّث ولو ببعض إشارة أو إيماءة أن هناك أرواحاً تتعذب تحت الطرق في أقبية العالم السفلي، كنت أهدد ويجري تكذيبي والكيد لي عبر أساليب الوشاية والتقرير.

وقبل أعوام من الفجيعة ،شبه لنا خيالات صحوة ..دأبت أن ألتقي ببعض من كتب لهم معجزة النجاة ورووا لي ما لم يتصوره عقل.

كنت أسمع ثم أقنع نفسي بأن ما أسمعه قد يكون متفقاً عليه بقصدية وهدف ،ثم أنتبه لممارسات يومية في الدوائر والمؤسسات وأمكنة العمل لا تشي بل تصرح بأن من يجرؤ سيكون العالم السفلي عقابه تحت رقم، نعم رقم لا يتحمل عناصر ولا أبعاداً ولاقصة خلق تكبدت فيه الصيرورة مشقة الآدمية والأنسنة.

وقبيل الزلزال السوري بوقت وجيز، دأبت على قراءة وثائق عن السجون، وصدقوني كنت أنفصل تماماً عن الحياة، في كثير من الأحيان أنحب وكأن المشهد ينبض أمامي، ومرات أخرى كنت أقرأ مراحل التعذيب، قراءة تشبه الجرعة المقننة كي يستطيع عقلي وضميري تمثلها، وطالما سألت نفسي هل تستحق الحياة مهما كانت طويلة وجميلة زهق روح وتعذيبها؟ وكيف تدرّب كل هؤلاء على هذا الشر والشيطنة؟ ما الذي مات عندهم؟

بطريقة معينة الجلاد يبرر تلك السادية واللذة الآثمة بالمعتقد والطائفة والدين، وأما الضحية فقد عرّيت بطريقة فاحشة من كل مزايا الروح والعاطفة ولم يعد إلا صرخة تذهب في واد، وأما الجلاد فقد يبلغ نشوته كلما أوغل بنتف اللحم وإهراق الدم.

ولما اشتد أوار الثورة كنت قد تيقنت أن سجناً كبيراً سوّرت تخومه بالفروع الأمنية والقبور الجماعية وآلات التعذيب قديمها وحديثها الأبشع إطلاقاً، وتملّكني شعور قهر وعجز ووجدت نفسي أنضم لمنظمة حقوق الإنسان، وفي أول نشاط ثقافي لي ألقي محاضرة عن التعذيب.

تلك المحاضرة التي حذرت من مفاعيلها على الجميع، وأصرّت اللجنة الثقافية أن تتناول المحاضرة تاريخ التعذيب والقتل كي تبدو عامة، وأن تبحث في سايكولوجية الجلاد والضحية، وكلما كنت أغوص في رواية تجارب الشعوب مع التعذيب والقتل من أجل الرأي، كان الجميع من الحضور قد قرروا أن يذكروا هذا الأمر في الجوار القريب والبعيد وعبر شهود عيان. كانوا كلما وصفنا طريقة وأسلوباً في القتل والتعذيب قالوا: وما لم يذكر هو الأكثر فظاعة.

ووجّه لنا الحضور كمنظمة لماذا لا نساهم في توثيق ما يحدث ولاننضمّ للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي ومعرفة مصير المفقودين، كان الجواب يأتي موارباً بل مرتعداً متنصلاً من مسؤوليته، مكتفياً بتعريف المنظمة الذي يصفها بالمحايدة وشارحاً مهمتها بالتثقيف الحقوقي.

في أوقات نشاطنا الذي اتخذ مرة تلو أخرى أسلوب الطقوس الحزبية التنظيرية، كانت الانتهاكات تجري عامة وخاصة، غير وجلة ومتجاوزة لكل خلق وخطوط حمراء ومحرمات ومقدسات، ولما ظهرت (حفرة الجحيم في التضامن) خطف الحدث ذهولنا ودهشتنا ولم نكمل فغر الأفواه حتى.

أولمت الفجيعة الكبرى لعمق بشاعتها بقانون عفو أريد منه تذكير الشعب بأمثلة حية، أن الحكم على كل شيء قدير، وأن الموت بطلقة على حافة حفرة هو رحمة لا تقارن بموت غير معلن لألوف من أصحاب الرأي ألف مرة في اليوم.

وإن بقي أحدهم حياً، خرج لا يلوي على شيء سوى التيه والشعور بالعبث، ومنهم من غادر فاقداً ذاكرته وإنسانيته وكرامته. تلك هي قصة العفو الذي تلا أصغر مجزرة.

عفو ومجزرة وموالاة ومعارضة، كلها ارتكبت فواحش القتل والتعذيب وهدر الحقوق، وإن الشهود الأحياء بمعجزة قد فقدوا دورهم كنموذج وحيد وحي على ممارسات التعذيب والموت.

التعليقات (1)

    HOPE

    ·منذ سنة 11 شهر
    السوريين يعيشون الالم كل يوم ز كبيرهم وصغيرهم .. حفرة التضامن لم تحركنا كسوريين لاننا نحن الحدث ونحن الالم .. نحن الضحيه والعالم يتلذذ بالامنا بحجة مصالح ومال قذر .. حفرة التضامن حركت الخوف عند من ارتكب فيها المجازر والاجرام لانه يعتقد ان اجرامه يطويه النسيان لذلك اقر قانون( العفو) .. اشمئزازنا كسوريين من مجرم يعفو عن ضحيه في عالم انقلبت فيه القيم والقوانين والفطره .. هي لعنه ستطارد المجرم الى قبره.. ولسا ما خلصت.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات