دراما الواقع الطائفي: من حفرة التضامن حتى جسر الرئيس

صورة تعبيرية
إنّه أعظم عمل درامي سوري يُختتم به السوق الرمضاني المنصرم، وأفضل ما يمكن تقديمه للغرب، وللجمهور المحلي والعربي، تفضَّلوا لنشاهد المسلسل السوري الطويل؛ المسلسل الذي يصوّر المأساة الخالدة للشعب المقهور، تفضّلوا العدسة هنا تحت جسر الرئيس؛ هؤلاء سجناء الرأي، المختطفون والمغيبون قسريًا، وآثار التعذيب بادية على أجسادهم النحيلة، وأثر الخوف واضح ومقروء، والتشويق حاضرٌ هنا؛ حين يخرجون إلى الجحيم الآخر، ويكتشفون مناطقاً سكنية قد أُبيدت بالكامل، وأهلًا لهم قد فُقدوا، حين يخرجون من قاع الجحيم إلى الحياة الواقعية المزرية في كنف مكبّ نفايات محور المقاومة، فعن أي خلاص تتحدّثون؟
همجية وبربرية السلطة المغتصِبة
تفضّلوا يا صنّاع الدراما وشاهدوا؛ صوّبوا العدسة هنا؛ على الرجل الذي يرتجف وهو يسأل عمّن بقي من أطفاله وأهله، وذلك الذي يتجمهر حوله الناس يسألونه؛ هل شاهدت صورة تشبه هذه؟
تفضّلوا هذا هو مسلسل الواقع السوري الذي يسبق الدراما بل يتفوّق عليها بمراحل عديدة، صوّروا لنا هؤلاء العائدين من أقبية الجحيم تحت جسر الرئيس، صوروا لنا يا من صدّعتم رؤوسنا بداعش وأخواتها، وبالمقاومة والمسؤول الفاسد، هذه دراما جاهزة متكاملة الأركان، صامتة، قاسية جدًا تحدث الآن تحت جسر الرئيس؛ هذا الموت التي يتكلّم في صورهم وهيئاتهم، هذا هو الرعب في حركاتهم وسكناتهم، الفزع تحت سجف الجفون، الذعر في كل ثنية من أجسادهم النحيلة.
إن أسلوب الإفراج هذا وما يتضمّنه من همجية وبربرية الطائفة المغتصبة للسلطة، لا يختلف كثيراً عن أسلوب الاعتقال، فهذا النظام الطائفي يثبت لنفسه وللعالم مجدّدًا أنه مجرم العصر بلا منازع، يستطيع ضخ الألم والحزن في الصور القديمة وتحريك الراكد منها فيعيد تقليب مواجع السوريين التي باتت بمنزلة الفنّ الذي أجاده وأتقنه - فن التعذيب - النظام الطائفي يثبت لنفسه ولمواليه أنه ضحّى بالكثير من أجل تلك المقتلة الشنيعة في حق شركاء الوطن، ولأجل محور المقاومة الصدئ؛ وفي هذا المضمار يركض اليوم آلاف السوريين بمشهد إذلالي يتجلّى في الطريقة الفوضوية والغامضة التي تمّت من خلالها عمليّة الإفراج التي تُضاف إلى معجم سفالته؛ يركضون على بصيص أمل ضئيل في احتمال لا يتجاوز واحداً من مئة ألف، يتجمهرون في شوارع دمشق، وراء السيارات المصفّحة ينتظرون خبراً يبرّد قلوبهم التي اشتعل الأسى فيها مجددًا، في مشهد سابق لمجزرة التضامن لمن فقدوا الأمل بعد يقينهم باستشهاد أبنائهم، أما الآن بمنتهى الخبث واللؤم يتاجر النظام الطائفي بآلام الناس و يبتز مشاعرهم، وسط المحرقة الأسدية الممنهجة، ضد الطائفة السنية، ضد هذا الوجع المقروء من خلال حجاب أمهّات وزوجات وبنات ينتظرن تحت جسر الرئيس.
مسلسلات بقاسم مشترك
لا... لم ينتهِ المشهد؛ ثمّة أمٌّ تنتظر خبرًا ولو تلفيقًا عن ابنها إن كان على قيد الحياة فقط، إن كان يتنفّس فقط، إن لم تحرقه أدوات التعذيب الوطنية...
هل انتهى المشهد هنا؟
لا... لا ... ثمّة أبٌ يسأل عن أطفاله وزوجته، ماذا تبّقى منهم؟ وأين نزحوا بعدما وسم النظام بكافة أفرعه الجوية السياسية والعسكرية تلك العائلة بالعار فخرجت نازحةً خارج الوطن...
هل انتهى المشهد هنا؟
لا ثمّة من يسأل عن حارته وموطن صباه الذي أُبيد بالكامل، بعد أن كان مرتعًا للتعفيش من جرذان المقاومة، وبقيت بعض الأجزاء المهدّمة كشاهدة على قبر الذكريات.
لا شكّ أن المشهد تحت جسر الرئيس نكأ جراح المكلومين، وكوى الملايين من السوريين مجدّدًا؛ السوريون الذين شاءت الأقدار لهم أن يرزحوا في سجن الطاغية الأول، في حين ما يزال برغي الجمهورية الفاضلة التي توحي بها بشكل مباشر مقولة أن الرئيس رجلٌ مثالي، و المشكلة تكمن في باطنة السوء أو بعض الفاسدين حوله؛ هذه المقولة التي ماتزال الخط العريض في سوق الدراما الرمضانية مثل "كسر عضم" كذلك المشتركة مثل "العائدون"، "مع وقف التنفيذ" وماتزال عزقة الخيال البائظة ضائعة؛ من الأعمال التي صنعت خارج حدود الوطن في ما تشهده الساحة الدرامية في سوق العرض الرمضاني، من دراما سورية وعربية مشتركة حوال الجرأة في نبش كومة الخردة تحت مسمى الجهادية كداعش، دون الالتفات لما يحدث من مجازر حقيقية ومن محرقة كبرى عاش ويلاتها الشعب السوري وما يزال يعيش تفاصيلها ، لماذا لم يتجرّأ أحدهم على الدخول في معترك السجون السورية، لماذا يتم تهميش المسألة مع وفرة المواد الغنية بالدراما؟ لتكون دراما الواقع التي جاءت على شكل مقطع مسرّب حول مجزرة التضامن، وما يتبعه من مشاهد الإفراج، القاسم المشترك بينهما أو الخط الدرامي المعبّر عن تلك العصابة المتجذرة في أحقادها والتي لم ترتقِ حتى لأخلاق المافيا، يساومون الناس على كل شيء، حتى على الأعضاء البشرية، من أجل تسريب خبر ما عن ذلك الذي سيق من أحد الحواجز، فقط على الهوية.
لماذا لا يريد أحد تعرية الجذور الطائفية؟
كذلك الأمر بالنسبة إلى الأفلام والمسلسلات التي صنعت بعيداً عن أجهزة الدولة وعن عدسة الوطن المحترقة التي لا تلتقط سوى معاناة المهاجرين أو الوضع الكارثي الذي كان يرزح تحته المواطن وما يزال، لكن لا أحد يجرؤ على الحديث عن العنصرية التي استغلها النظام وعمل على إيقاظ جذوتها، لا أحد يتحدّث عن الجذر الطائفي العلوي الحاقد على باقي الطوائف، لا أحد يجرؤ على الخوض في هذا المستنقع بحجة الحض على الكراهية، وأي كراهية يتقبلها العقل الساذج برؤية صنوف القهر والتنكيل المخصّصة لطائفة بعينها، لماذا لا يريد أحدٌ تعرية الجذور الطائفية؟ لماذا نعيش منفصمين عن الواقع الحقيقي، وإذا كنا نحن شهدنا الأحداث نراها الآن تحوّر على أعيينا وضمن نطاق حواسنا الآنية، فأي تاريخ لقيط مشوّه سيقرؤه أبناؤنا عن هذه المرحلة؟! وإذا كنا لا نجرؤ على الخوض في أصل المشكلة وجذرها العصبوي الطائفي البحت، فكيف سنتصدى لمجازر ستحدث لاحقًا على شرف حب الوطن و"لعيون القائد المفدى"! كما صرّح المجرم مرتكب مجزرة التضامن، فنغمض العين هنا، ونفتح الأخرى لتتسمّر حول الدعارة في مسلسل "كسر عضم"، أو حول المسؤول الفاسد الذي لا تظهر صورة القائد في مكتبه كأنها إشارة ضمنية لم تعد تخفى على أحد!
العدسة هنا؛ لنبصر هذا الحشد تحت جسر الرئيس، حين يهرع ممن فقدوا شبابهم في أحجية المعتقلات السورية، من مكتومي القيد، يعيش أم لا يعيش؟ ليقوم الآباء في مشهد يطغى على كافة الدراما التلفزيونية السورية، وهو يعرض صور ابنه؛ هل هو على قيد الحياة؟ هل رأيته؟ أمه مريضة تريد خبراً يُطمئنها على ابنها؟ فأي جحيم يعيشه السوري، أيّ جحيم هذا الذي كلّما سدّ السوريون ثغرة في جداره يعود النظام المجرم ليفتح أبواباً في فصول الجحيم السوريّ الذي لا نهاية له.
العدسة هنا تحت جسر الرئيس، أكشن.
هذا المشهد المختزل الذي يوضح لك الدراما التي يعيشها السوري، هذا المشهد يجب أن يتصدّر قنوات العالم، هذا المشهد الحقيقي فقط. وليست تلك التي تصنعها يد المخابرات التي تفصّل على مقاس الأنظمة، فيما يجسّد وظيفتها في تنميط الخيال وتشرشيه، دراما الإلهاء عن الواقع والتي تشبه " اللـّهاية" في فم الصبي حيث تنضوي على خدعة المص فقط، وهي كرة مطاطية فارغة...
تتجلّى قيمة الفن الكبرى والأدب في أنهما سجل النشاط البشري في مرحلة تاريخية محددة، ويمكن القول بأنهما يؤرّخان لمرحلة ما، كما يجعل الأدب النشاط البشري أكثر تركيزاً على القضايا العامة لأنه يعدل الحياة البشرية الفعلية لغرض ما أو لنتيجة محددة. لكن ما يُؤخذ على الدراما الحالية الانحياز إلى ترسيخ مفهوم نقد الإرهاب الذي ساد في الآونة الأخيرة، متجاهلين إرهاب الدولة، هم يرسّخون مفهومها، ويمارسون حالة من التزوير الممنهج، حتى غدا الواقع مغشوشًا، فهل نحدد واقعنا أكثر بما نراه نحن أم بما تراه أجهزة الدولة؟! ألا يعدّ ذلك تزويراً للواقع؟ ألا يعدّ ذلك خيانة لدم الشهداء الذين قضوا في المجازر؟ وخيانة لأهالي المغيّبين الذين يرزحون تحت وطأة التعذيب؟ ألا يعدّ ذلك تحويراً لمفاهيم راسخة وواضحة، حين ستطلع أجيال على المرحلة التاريخية هذه؟
هذا عمل فني كامل ومتكامل، يا كتّاب الوطن ويا مخرجيه، ويا فنّانيه، أليس لديكم عيون تشاهد؟
هذا المشهد تحت جسر الرئيس حلقة من مسلسل سوري طويل، وقبله كانت حلقة "مجزرة التضامن"، يبدو أن هذا النظام مستغرق في إخراج الدراما البديلة الحقيقية التي يجب علينا أن نتعذّب بمشاهدتها بصمت، تلك الدراما الطائفية التي تشدّ أواصر الواقع المهزوز، بينما يبقى المرقّعون والمنتشون يبحثون عن لملمة شرذمة جمهورية أفلاطون البائدة.
اضافة تعليق
يرجى الالتزام باخلاق واداب الحوار