مشواري مع الأدب والثورة-6: مخيم جيلان بينار خلية نحل.. ومُعلّمة تتهمنا بأسلمة المدرسة!

مشواري مع الأدب والثورة-6: مخيم جيلان بينار خلية نحل.. ومُعلّمة تتهمنا بأسلمة المدرسة!

بعدما  استتب أمر المدارس بإشراف اللجنة التي شكلناها، التفتنا لبقية الشرائح الاجتماعية في المخيم، كل الشرائح محتاجة رعاية ومحتاجة عملاً لأجلها: النساء المحتضنات لعائلات يشكو جميع أفرادها مشاكل صحية ومشاكل نفسية أنتجتها الأهوال التي مروا بها قبل وصولهم للمخيم، المعلمون الذين لا خبرة لهم بالتعليم، وجدوا الجو خاليا فتطوعوا لتعليم الأطفال, هؤلاء المعلمون يحتاجون دورات يتعلمون فيها أساليب التعليم. الفتيان المتسربون من المدارس أو الذين لم يدخلوها أصلا، بسبب رحلات النزوح والتنقل بين القرى والمدن قبل وصولهم للمخيم. أدركنا أن أمامنا مسؤوليات كبيرة ولا بد من العمل المكثف، ولكن كيف وأين؟؟.

مشروع تشغيل النساء   

بدأت مشروعا لتشغيل النساء.  استدعيت كل من تتقن شغل الكروشيه، ورحت أشتري خيوط الصوف من  دكان صغير في جيلان بينار... ثم من متاجر كبيرة في غازي عنتاب.  بدأنا بإنتاج ملابس جميلة جدا معظمها للأطفال، وبعضها كنزات وشالات نسائية، كنت أدفع للعاملات أجرة القطعة فور تسليمها، ويشتريها مني أصدقاء لا حاجة لهم بها. يشترونها جملة ثم يتبرعون بها. 

بدأت النقود القليلة تجري في أيدي النساء بعد طول انقطاع، وظهر هذا بوضوح في عيد الفطرـ اذ ارتدى الأطفال في العيد جديد الملابس اشترتها لهم أمهاتهم، بما قبضته من أجرة عملها، توقف المشروع بعدما سمح للرجال بالخروج من المخيم للعمل في المزارع القريبة وفي ورشات البناء.

 خيمتي صارت مشغلا.. لا .. لا أريد ازدحاما حولي, فلتأخذ كل واحدة خيوطها ولتنسجها في خيمتها, أمسكت دفتراً أسجل فيه الصادر والوارد , تساعدني فيات من بنات الجيران, في خيمتي كومة من الخيوط الصوفية, وكومة أخرى من الملابس المنسوجة, دخل الفرح  إلى بعض القلوب والنفوس, كان عدد العاملات يقارب المئة وخمسين امرأة, ما تزال أسماؤهن محفوظة في دفتر عندي.

 بنات المدرسة الثانوية والإعدادية معظمهن لا يملكن من الملابس ما يناسب المدرسة, يرتدين ملابس ضاقت على أجسادهن التي تجري سريعا في طريقها إلى البلوغ, لا بد من حل, وأين الحل؟ الحل في تفصيل لباس موحد لبنات الثانوية, تجهيزات المخيم كانت كثيرة جداً, منها المستوصف, ومنها قاعة الاجتماعات, وملعب لكرة القدم, ومنها مرسم ومشغل للخياطة والتطريز.

من أين نأتي بثمن القماش وأجرة الخياطة؟! مخيمنا بعيد جدا عن كل الممولين، الذين يستسهلون الوصول لمخيمات القريبة من المدن, القريبة من المطارات, هنالك يقدمون تبرعاتهم, يتصورون ويغادرون, لكنهم لا يصلون إلى مخيمنا الذي يفصله طريق ترابي عن أقرب  بلدة ريفية صغيرة, هي الجزء التركي من راس العين, قررت تفصيل لباس موحد لبنات الثانوية, اخترنا القماش, والأزرار, واتجهنا إلى مشغل الخياطة في المخيم.

كنت في مدينة أورفا، وكان هنالك مؤتمر يخص الأيتام. ما عدت أذكر التفاصيل، ذهبت إلى حديقة الإبراهيمية. حديقة واسعة مليئة بالأشجار العالية المعمرة والأزهار المتنوعة، يتخللها أحواض يسبح فيها السمك بكثافة غير عادية. تعلو الحديقة قلعة صغيرة يقال إن النبي إبراهيم الخليل عليه السلام كان هناك، وإن القلعة هي قلعة النمرود، حين أرادوا إحراقه في النار ملئت الحديقة بالحطب المشتعل, وألقي إبراهيم الخليل عليه السلام من القاعة إلى النار، وقال الله سبحانه وتعالى: "يا نار كوني برداً وسلاماً" فكانت وانقلبت النار ماء، وبقايا الحطب صار سمكا، ونجا نبي الله من النار.

رحلة الحج في ضيافة أصدقاء من حماة 

في جولتي في تلك الحديقة خلت أني أسمع نداء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام, إذ استجاب لأمر ربه حين قال له "وأذّن في الناس بالحج يأتوكَ رجالاً وعلى كلّ ضامر ِيَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" صدق الله العظيم. 

وانتبهت.. لم لا أذهب للحج؟ تركت أورفا وسافرت إلى غازي عنتاب، قدمت طلبا لمكتب الحج، وكان الأمر حينها في غاية السهولة.

أديتُ مناسك الحج مع المجموعة التي رافقتها، ثم بدأت بالتواصل مع معارفي, سبق أن قلت أني ولدت ونشأت في مدينة حماة, وفي كل مكان في العالم أجد أصدقاء من حماة. ولم يخذلوني أبدا، كانوا دائما نعم الأهل ونعم الأصدقاء.

 في مكة كما في المدينة وجدة، تنقلت بين عدد من بيوت أهل حماة، كلهم عائلات غادرت البلاد منذ الثمانينات بسبب إجرام حافظ ورفعت الأسد.. سبقتنا في رحلة التهجير والتشرد.  استضافوني وأكرموني، قدموا لي الهدايا ومن ضمنها جهاز اللابتوب الذي ما زلت أعمل عليه حتى الآن.

صديق من أهل حماة جاء من الرياض إلى المدينة المنورة بسيارته مصطحبا طفليه، ليأخذني إلى مدينة الرياض, لأن القانون لا يسمح للحجاج والمعتمرين بمغادرة الأراضي المقدسة (مكة والمدينة وجدة) نحو باقي أراضي المملكة. 

في الرياض، كما في مكة والمدينة وجدة، تنقلت بين عدد من البيوت الحموية. وأخيرا استقر بي المقام في بيت بنت خالي, من هناك تعاون الأصدقاء فأقاموا لي حفل توقيع لكتبي, الكتب التي طبعت في (دار رواية)  هناك.

اتهامات بأسلمة المدرسة 

خرجتُ من ذلك الحفل بمبلغ لا بأس به. كان الزملاء من المخيم يتصلون معي بإلحاح؛ فالخياط رفض تسليم الملابس الجاهزة أو أي قسم منها إلا بعدما يستوفي أجره كاملاً وهم لا يملكون المال. اتصلت معه وطمأنته، طلبت منه التسليم وسأدفع حين أعود، لكنه لم يفعل. حين رجعت من رحلة الحج، دفعت المبلغ الذي جئت به ثمناً لملابس بنات الثانوية، وتم التوزيع، لم نصور البنات، ولا صورنا تسليم الملابس، كما لم نصور أي توزيع, ولم نسمح لأحد بالتصوير والنشر.

فرحت البنات كثيرا بالملابس، بعضهن استخدمنها كمعطف للخروج الرسمي، معظمهن يعشن في خيام غاب عنها المعيل، إما شهيد أو معتقل أو مقاتل على الجبهات، وبعضهن تزوجت وأخذته في جهازها، بهذا العمل أزلنا الفرق بين الغنية والفقيرة من الطالبات، وحملنا عبئاً كبيراً عن العائلات العاجزة عن تأمين ملابس لائقة للبنات.

وكما وجدنا في مدرسة الذكور أستاذاً يشجع على التدخين ويشحذ السكائر من الشباب المدخنين، وجدنا في مدرسة البنات معلمة لم يعجبها مشروعنا، فراحت تحكي بأننا اخترنا قماشاً رخيصاً، وأننا نريد (أسلمة) المدرسة بفرض زي موحد، لذلك شجعت البنات على القص من طول الرداء وتقصيره ليتناسب مع الموضة، وهذه الآنسة كانت تشجع الطالبات على الماكياج، وحين تعترض آنسة أخرى تحاول ردعها بقوة، وتعتبر هذا مصادرة للحرية الشخصية للبنات، إن هذه النماذج من المعلمين بقايا منظمات الشبيبة والطلائع.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات