تنام المجازر في سوريا، ولا تجد من يوقظها، تستلقي بمخيلة ضحاياها بين منعطفي تدمر والتضامن، وكأن السنين لا تمر هنا، وكأن النظام السوري لا يمرُّ إلا من بين جثث قتلاه. تلك المجازر ليست نتاج سمة استبدادية فيها قهرٌ لروح المجتمع فحسب، وإنما تعبيرٌ سياسي واضح الدلالة عن فكرة التعامل مع الآخر غير المنتمي إلى المجتمع المدجّن، المجتمع القطيعيّ بنسقه العام، وتعبيرٌ دينامكي آلي يخلو أيضاً من أي عاطفة، فيه اكتناز لمدلولات الانتقام والغلّ والتصفية الجسدية الجماعية لمجموعة بشرية يراها النظام كتلةً واحدة معادية لفكرة وجوده غير الشرعي. وحدهم الناجون من مجالسة الموت يومياً داخل معتقلات النظام، أو في قاع أقبية فروعه الأمنية بمقدورهم إعادة سرد حكاية نجاتهم مرّاتٍ ومرات، وكأنهم لا يعرفون حكايةً غيرها، وكأنها حكايةٌ لا تحدث في مسار الحياة إلا مرّةً واحدة فقط، وإن حدثت يصير الناجي كأنما هو الحكاية بعينها.
فاقدو الذاكرة تحت الجسر
أكثر من 131 ألف سوري تحصيهم الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما بين معتقل ومختفٍ بصورة قسرية لدى الأجهزة القمعية للنظام منذ آذار/ مارس عام 2011، فكم منهم سيخرج بما يسميه النظام "مرسوم عفو" ؟! وكم عدد من سيظل غائبَ المصير؟! معلّقاً بين فرضية الموت داخل الاعتقال، أو فرضية البقاء غير مشمولٍ بفضائل ذاك المرسوم المتحذلق، فما إن سمع ذوو المعتقلين ببدء خروج أعداد منهم حتى توافدوا إلى المنطقة المتاخمة لجسر الرئيس، انتظروا هناك لساعات ممطوطة بدت لهم بلا نهاية، فلم يكن شاقاً عليهم إذاً أن يهرولوا وراء سيارة مصفحة خاصة بنقل السجناء ظهرت وهي تدخل شارع القوتلي من جهة ساحة الأمويين، هل كانت فارغة الحمولة؟! لا أحد يعرف. وذوو المعتقلين ما تعبوا من الانتظار، همّهم المتربص بهم كان احتمال اللقاء بذويهم هناك، أو أن يعلموا شيئاً عن مصائر ذويهم الغائبين، لذلك افترشوا مساحة الممكن، مرابطين هناك، ينتظرون جلاء لعنة الغياب عن أناس يخصونهم، فأولئك الذين خرجوا بادئ الأمر وهم فاقدو الذاكرة، كانوا أول من خرج من معتقلات النظام، وسرعان ما ظهرت صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي للتعرف عليهم، ونجدتهم من تيهٍ جديد رماهم النظام إليه، وكانوا أيضاً ملاذ أملٍ جديد حين عرض عليهم أهالي المعتقلين صوراً وأسماءَ من دون فائدة. فأي نتيجة كانت تُرجى من ضحايا للنظام السوري بذاكرة مثقوبة تنزُّ قيح الموت والعذاب اليومي من داخل محلات جزارة النظام حيث كانوا يقيمون؟! وربما ظهروا بين الناس على تلك الصورة بتدبير من النظام نفسه، لا ليشيعوا أملاً شحيح الأثر بحضور الغائبين عن أهلهم، بل ليعرض النظام الحالة التي يكون عليها مواطنون عارضوا يوماً ما وجوده غير الشرعي، وكان لهم فيما مضى أسماء وأهل وزوجات وأبناء وأصدقاء، ثم إن تلك الأسماء المُفرج عنها، والتي ظهرت في قوائمَ تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي على نحوٍ واسع، كانت تتجاوز المئة اسمٍ بقليل، وأعداد المعتقلين والمغيّبين يتجاوز المئة والثلاثين ألف اسم، فأين باقي المعتقلين والمختفين قسراً؟! هل قتلهم النظام ودفنهم في مقابرَ جماعية تشبه تلك التي ظهرت مؤخراً تحت توعّكِ ركام مخيم التضامن؟! هم أيضاً على أي حال قتلى التواطؤ العربي والدولي في صمتهما المشرّف عن سنعة محلات الجزارة التي يديرها النظام في أقبيته الكثيرة.
الأسماء التي لم نحفظها بعد
تسابقت استفسارات الناس تبحث عن مصائر أقارب لهم، فكانوا يبثّون صورهم وأسماءهم على صفحات "فيس بوك" التي واكبت خبر الإفراج عن معتقلين كانوا يقبعون في سجن صيدنايا العسكري منذ العام 2011، بعضها القليل من السويداء، وأكثرها من الطائفة السنيّة التي تحمّلت دون سواها من مكونات المجتمع السوري وزر الموت والتهجير الممنهج والتغيير الديموغرافي الذي مارسه النظام بحقها طيلة السنوات الماضية، تساءل البعض في السويداء عن مصير أسعد العريضي الذي اعتقلته المخابرات العسكرية عام 2013 من مكان عمله في مدينة جرمانا، وابنه فراس الذي اعتقل على حاجز قصر المؤتمرات بعد اعتقال والده بنحو عام واحد، وكلاهما مجهول المصير حتى الآن، ومثلهما ناصر بندق الذي اعتقل من منزله في صحنايا في شباط/ فبراير عام 2014 ومصيره حتى اليوم مجهول، والشاب نورس وليد عريج المفقود منذ تسع سنوات دون تحديد لطبيعة الاختفاء، أو الجهة التي تقف وراءه.
تطلُّ صور المغيّبين قسراً لتهينَ حياة من ينظر إليها، ترافقها شذراتٌ خاطفة تنطقُ بالاسم وبتاريخ الميلاد والاختفاء، صورٌ كثيرة لأسماء كثيرة من ريف دمشق وحمص وحلب وحماه ودرعا لا يزال أصحابها مجهولي المصير منذ حملة الاعتقالات التي بلغت أوسع مدًى خلال عامي 2013 و2014، وهذا يحيلنا مجدداً إلى ترسيم الحدود المرئية بين المعتقل المعروف مكان اعتقاله، وبين المعتقل المجهول مكان الاعتقال، وفي كلتا الحالتين ثمّة تغييبٌ قسري، وحجزُ حريةٍ بصورة غير قانونية، وإنْ في بلد يحتكم إلى منظومة أعراف استبدادية همّها حماية منظومة حكمٍ غير شرعية، ولن يجد مصير المعتقلين حلاً حقيقياً يعيد الاعتبار إلى مصائرهم المترنّحة، ما لم تخرج سوريا من اختناقها السياسي بنظام حكمها الحالي إلى نظام حكم جديد، ذاك الذي نادت إليه كل الأرواح التي زُهقت، والتي تنتظر.
التعليقات (0)