كان مفاجئاً لمعظم العارفين بخفايا ودهاليز القيادة الأسدية تعيين اللواء علي محمود عباس وزيراً للدفاع, وهو الضابط الشاب تقريباً نسبة لأعمار من شغلوا هذا المنصب, فهو ضابط من الدورة 38 وابن مدينة الزبداني, قرية إفرة, من مواليد 1964, اختصاص مدرعات, انتدب لدورات خارجية في كل من الباكستان وبريطانيا والسويد وهولندا, بدورات تُعنى بالدفاع الوطني وإدارة الأزمات, رُفّع لرتبة لواء في مطلع عام 2018, وعين بعدها مباشرة نائباً لرئيس هيئة الأركان في آذار 2018.
صحيح أنه من المتعارف عليه في سوريا أن يكون منصب وزير الدفاع من حصة ضباط الطائفة السنية بالجيش السوري, باعتبار أن منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة يكون من حصة بشار الأسد "علوي", لكن نظام الأسد كعادته كسرَ كل تلك القواعد والأعراف بعد الثورة, وعيّن من يشاء بهذا المنصب وفقاً لمعيار واحد, هو مدى ولائه للنظام, ومدى إطاعته العمياء للأوامر الصادرة عن رأس القيادة الأسدية والمخابرات و إيران وحزب الله.
المستغرب بتعيين اللواء علي عباس وزيراً للدفاع أن هذا المنصب كان يُعدّ منذ عام 2008 ليشغله اللواء سليم حربا (من الدورة 33), اللواء سليم حربا أو الضابط المدلل كما كنا نطلق عليه ( بالمناسبة كنا زملاء أنا واللواء سليم والوزير الجديد اللواء علي عباس كضباط مدربين ومحاضرين بالأكاديمية العسكرية العليا لمدة عشر سنوات قبل الانشقاق) باعتبار اللواء حربا مقرباً من المخابرات العسكرية السورية, وأحد أقارب اللواء علي يونس ضابط الاستخبارات الأقوى في زمرة بشار الأسد, ففي عام 2008 وبنشرة ترفيعات وتنقلات للضباط صادرة عن القيادة العامة للجيش, تمت الإطاحة بأكثر من عشرة ضباط من رتبة عميد ولواء (تم نقل اللواء صائب قهوجي ابن مدينة السلمية وتسعة ضباط برتية عميد وجميعهم أقدم عسكرياً من العميد سليم حربا لأماكن أخرى خارج كلية الأركان العليا لفتح الطريق للعميد سليم حربا نحو استلام المناصب) ولجعل العميد سليم حربا الضابط صاحب الرتبة الأعلى بكلية الأركان العليا في الأكاديمية العسكرية العليا ليتم تسليمه قيادتها وهذا ما حصل, ثم تم نقله لاحقاً بعد اندلاع الثورة كنائب لرئيس الأركان ثم نائب لوزير الدفاع, وكنت تجده دائماً عضواً لا يتغير في كل وفود التفاوض الممثلة للنظام جنباً إلى جنب مع بشار الجعفري في وفود جنيف ووفود أستانا, وفجأة تصدر الأوامر من بشار الأسد للإطاحة بكل نواب رئيس الأركان ونواب وزير الدفاع لتنصيب اللواء علي محمود عباس وزيراً للدفاع.
لو حدث هذا الأمر بظروف عادية لكان تفسيرها أن نواب رئيس الأركان ووزير الدفاع قد تجاوزوا السن القانونية ودخلوا في مرحلة التمديد, وأن القيادة ارتأت التخلص منهم واستقدام ضابط برتبة لواء وبعمر مقبول لشغل هذا المنصب, لكن ظرف النظام ليس مثالياً, فهو يمر بظروف استثنائية تحمل في طياتها الكثير من التعقيدات, فما الذي دفع ببشار الأسد أو أصحاب القرار في الغرف السرية لاتخاذ هذا القرار؟؟
بنظرة بسيطة ولا تحتمل الكثير من الجهد تبرز قضية مجزرة حي التضامن التي طفت على السطح مؤخراً والتي فضحت إحدى جرائم النظام التي لا تعد ولا تحصى, مجزرة يتضح فيها مدى إجرام قيادة هذا النظام من ضباط جيش واستخبارات مع عناصرهم, وكيف يساق هؤلاء المعصوبة أعينهم للموت بطريقة وحشيه لم يشهدها التاريخ من قبل حتى في أقسى مراحل إجرام النازية.
أكثر ما يبرز في مجزرة التضامن المصورة بتقنية عالية وتستطيع أن تسمع فيها وبوضوح كلام المجرمين الذين ارتكبوا تلك الجريمة وبدم بارد, كيف يسوقون ضحاياهم إلى مقبرة جماعية ويحاولون جعلهم يتقدمون للموت دون عناء حملهم, بحيث تُربط أعينهم ويوضعون على طرف الحفرة ويطلب منهم المسير للأمام, وبلحظة السقوط تنهال عليهم نيران بنادق القتلة والمجرمين من ضباط وعناصر الاستخبارات وجيش النظام, فيتكدسون فوق بعضهم البعض ومن يتحرك يعاد إطلاق النار عليه, ثم لاحقاً يطمرون بالتراب كواحدة من المقابر الجماعية وما أكثرها في سوريا, وقد يكون بينهم من لا يزال حياً فيدفن حياً دون أدنى رحمة (بالطبع قلوب هؤلاء لا تعرف الرحمة ولا تعرف الإنسانية).
اللافت بهؤلاء الشهداء الذين تم تصفيتهم بطريقة وحشية ودون حتى محاكمات ولو صورية, أن هؤلاء الشبان ليسوا معتقلين بتهم اعتاد النظام على لصقها بكل من خرج بالثورة, وليسوا مساجين أيضاً, فشكل أجسادهم ومن خلال خبراتنا بطريقة تعامل النظام مع المسجونين تقول إن هؤلاء لم يدخلوا سجوناً أبداً بدليل صحتهم وأجسادهم المتناسقة والجيدة, ولو كانوا مساجين لشاهدت ثيابهم الممزقة وأجسادهم النحيلة ولشاهدت آثار التعذيب على أجسادهم كما خبرنا عمل تلك المنظومة المجرمة خلال سنوات الثورة وما قبلها حتى, وبالتالي هؤلاء الذين تم إعدامهم وفقاً للفيديو المسرب الذي وثق تلك الجريمة والذي نقله أحد الضباط برتبة رائد من استخبارات النظام بكل أريحية معترفاً بتلك الجريمة, وأن من تم تصفيتهم هم مدنيون تم اعتقالهم على الحواجز ومن بيوتهم وكانت تلك الحفرة مكاناً لحتفهم وتصفيتهم بأبشع طريقة وحشيه يمكن أن يتصورها عقل البشرية.
لا نقلل من مجزرة التضامن إن قلنا إنها إحدى آلاف جرائم هذا النظام, الذي مارس خلال سنوات الثورة كل ما يستطيع من قتل وإجرام وتعذيب وإخفاء قسري للمواطنين فقط لأنهم خرجوا بثورة يطالبون تغيير تلك المنظومة الاستبدادية التي سطت على حكم سوريا من عام 1970 عبر انقلاب عسكري قاده المجرم الأكبر حافظ الأسد وزوراً وبهتاناً أطلق على هذا الانقلاب اسم "الحركة التصحيحية" وبات يحتفل بها كل عام دون خجل أو وجل, بل ويعتبرها من منجزات الشعب السوري.
وبالتالي فمسرحية النظام بتعيين اللواء علي عباس من الطائفة السنية وزيراً للدفاع في هذا الوقت بالتحديد, هي فكرة أتت لتحاول ولو جزئياً لفت أنظار الإعلام وحرفه عن جريمة التضامن ومحاولة إشغال العالم خارجياً والشعب السوري بالداخل بتفاصيل هذا الخبر والتخفيف ما أمكن من آثار جريمة ومجزرة حي التضامن.
لكن بقي أن نقول:
جريمة حي التضامن وما سيتكشف بعدها من جرائم لاحقاً, وهي جرائم لا تعد ولا تحصى ستثبت للعالم الخارجي مدى إجرام هذا النظام, وستكشف للعالم الخارجي مدى بشاعة تلك المنظومة الاستبدادية, وستكشف للعالم مدى الجريمة التي ارتكبوها بحق الشعب السوري عندما تخلوا عنه وتركوه فريسة بيد تلك الوحوش التي لا تتشابه مع البشر بتاتاً, ونقول ستتكشف للعالم الخارجي ولا نقول للسوريين, لأن كل مواطن سوري حر يعلم حقيقة هذا النظام بعد خمسين عاماً من العبودية عاشها السوريون تحت ظل إجرام آل الأسد واستخباراته, واليوم يعيشها بوجود الإجرام الإيراني وإجرام عصابات حسن نصر الله.
فهل تُشكل مشاهد مجزرة التضامن وخزة ضمير لقادة العالم لإعادة صياغة حساباتهم ومواقفهم تجاه الشعب السوري؟؟
أم إن الحديث عن الأخلاق والضمير في عالم السياسة كالحديث في حمام انقطعت عنه المياه؟؟
التعليقات (6)