المثقف المختلف والجنون الجماعي

المثقف المختلف والجنون الجماعي

الجنون عند الأفراد هو أمر قليل وربما نادر، لكن عند المجموعات والأحزاب والأمم والعصور، فالجنون هو القاعدة. هكذا يقول "نيتشه" غير مبتعد عن قول مأثور يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر: "إذا أردت أن ترى مجنوناً، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة".

بهذا المعنى للجنون قد يتفق الجميع مع "نيتشه" فيما ذهب إليه، وبالطبع لن يقبل أحد أن ينعت هو وقومه أو جماعته بالجنون، لكنه لا يتوانى، بل ويستسهل نعت الآخرين بهذه الصفة ماداموا يعتقدون معتقدات تخالف معتقداته، أو أن لديهم عادات وأعرافاً تتناقض مع عاداته وأعرافه، ولكن في نفس الوقت، عليه أن يتوقع أن الآخرين ينظرون إليه بنفس الطريقة. وهكذا، إذا ما قمنا بجمع هذه النظرات والآراء المتبادلة بين المجموعات والأحزاب والأمم والعصور كما يقول "نيتشه"، فالنتيجة: جنون جماعي يختلف في بعض مظاهره.

والجنون بهذا المعنى أقرب إلى مفهوم "العقل الجمعي". أي، هو ليس سبة أو نقيصة، إذ يعتبر العقل الجمعي بالرغم مما يشوبه من عيوب تقرب أصحابها من صفة الجنون معبراً عن وحدة التقاليد والأعراف، ووحدة الأفكار ووحدة الجماعة، ويؤدي وظيفة الضابط والناظم لسلوك المجتمع أو الجماعة، لكنه يصبح ضاراً ومؤذياً عندما يدخل نفق الجمود والتكلس، فالأفكار والمعتقدات غالباً تأتي وتترسخ نتيجة لمزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية، وبما أن الحياة والظروف في تطور مستمر؛ فثبات الأفكار وتماثلها يعتبر عائقاً في طريق التقدم للمجتمعات التي تروم التقدم، وبمنظور آخر؛ يعد الجمود الفكري مهيناً للجماعة أو للإنسان بصفته إنساناً. أي، بصفته كائناً يتطور باستمرار بخلاف الكائنات الأخرى. 

إذن، فالتطور المستمر هو الحالة الوحيدة التي يمكن أن تقرب الإنسان إلى حالة التعقل الجزئي، فالجنون هو الحالة الطبيعية الملازمة لحياة الإنسان عبر تاريخه الطويل، بل هو جزء لا يتجزأ من كينونة الجماعات البشرية، وهم: أي الجماعات البشرية، حتى في حال انصياعهم لتعاليم الحكماء والأنبياء والرسل لا يلبثون بعد فترة وجيزة أن يتحولوا لجماعات تتقوقع كل واحدة منها حول أيديولوجية معينة، أو توجه معين؛ مقيدة نفسها بسلاسل الاعتبارات الغيبية، والترتيبات الأخلاقية والانتظامات الاجتماعية والانقيادات السياسية. وهو ما يمكن وصفه بالعودة إلى الحالة الطبيعية؛ العودة إلى حالة الجنون. 

يؤدي الأشخاص المتفوقون عقلياً دوراً كبيراً في قيادة الأمم سواء في السياسة أو الأدب أو العلم أو التجارة أو الصناعة، لكن الطبيعة البشرية التي تحدثنا عنها في الفقرات السابقة من هذا المقال؛ دفعت كبار المفكرين والعلماء في المجالين النفسي والاجتماعي إلى تقديم بعض النصائح لقادة الرأي وللساسة وأصحاب التأثير تجعل هؤلاء المتفوقين يلعبون دوراً سلبياً في حياة مجتمعاتهم. من ذلك مثلاً: قول "غوستاف لوبون": " الجماهير لم تكن في حياتها أبداً ظمأى إلى الحقيقة .. وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، ويفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ .. فمن يعرف إيهامهم يصبح سيداً لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم". وقول "إريك فروم": "من يمتلك الإيمان الكافي لمقاومة تيار الجمهور هو استثناء غالباً ما يكون موضع إعجاب بعد عدة قرون، في حين يضحك معاصرون عليه". من هنا؛ يُلاحظ أن فئة الأذكياء والمتفوقين عقلياً يختارون الطريق الأسهل والأسلم في سلوكهم تجاه الجماهير عن طريق محاباة الشارع وتملقه بالخطاب الذي يفضله. أي، الخطاب الذي اعتاده. بالإضافة إلى ذلك، فالمقاييس التي تحددها بعض المجتمعات –خصوصاً المجتمعات المتخلفة- لإفراز النخب لا تشترط التفوق العقلي والذهني، وهؤلاء؛ على المستوى الفكري هم نسخة عن مجتمعهم. وبهذا نكون أمام فئتين من النخب: فئة تعلم الحقيقة وتفضل ممالأة الجمهور عن سابق إصرار وتصميم، وفئة هي بالأصل لا تعتقد سوى بما تعتقده الجماهير. وبالتالي، استمرار لحالة الركود والتخلف، أو استمرار لحالة الجنون الجماعي.

يوجد من يقول: "لا توجد مجتمعات أو شعوب متفوقة وأخرى متخلفة؛ فالقضية بالأصل مسؤولية النخب، فالمجتمعات الناجحة؛ هي كذلك لأن لديها نخباً ناجحة، والمجتمعات الفاشلة هي كذلك لأنها ابتليت بنخب فاشلة". من هنا تعمد الثورات الشعبية إلى إقصاء ومعاقبة النخب التي تبوأت الصدارة في المرحلة التي حكمت عليها النخب الجديدة، التي تحرض الجماهير، بالفشل. نتيجة للأسباب السابقة؛ تحافظ النخب الجديدة على الثقافة والقيم والأفكار السابقة، وشيئا فشيئا يبدأ البعض بالشعور أنهم كانوا ضحية صراع على السلطة، ويبدأ التململ والاعتراض الذي قد يؤدي إلى إفشال الثورة. أي، إثبات أن ما حصل وانتهى لم يكن سوى نوبة من الجنون الجماعي. أو يؤدي إلى ثورة من داخل الثورة.

يقول (أنطون تشيخوف): "سيصبح الإنسان أفضل عندما تجعله يرى حقيقته وما هو عليه". تبدو العبارة قريبة للعقل، ولكن من ذا الذي سيتجرأ أن يجعل الإنسان يرى حقيقته وما هو عليه؟! فكما سبق: الإنسان بطبعه لا يحب اللوم أو الاعتراف بأنه مخطئ، بل هو يغضب ويعادي من يواجهه بالحقيقة، وهو ما يجعل بعض المثقفين والمفكرين الذين يختارون هذا الطريق أقلية منبوذه. هذا النوع من المثقفين "المختلفين" "الاستثنائيين" هم ضرورة للحياة البشرية، إذ لولا المختلف ما جاءت الإبداعات ولما تطورت الحياة! 

أدركت المجتمعات المتقدمة أهمية "المختلف" و"المختلفة" فعملوا حول هؤلاء أفلاماً لينشروا الوعي العام بمن هو المختلف ليحترمه الناس ويقدرونه على أنه ثروة وطنية لا مصدر قلق وإزعاج كما كان ينظر إليهم سابقاً في تلك البلدان، أو كما ينظر إليهم حالياً لدى الشعوب التي ما زالت تعاني من الركود الفكري والمعرفي.

إن المنقذ من حالة الجنون الجماعي هو "المثقف المختلف الاستثنائي"؛ هو ذاته من ينعته الناس بالجنون، هو ذاك الذي قبل أن يكون فدائياً ونذر حياته من أجل قول الحقيقة وتسليط الضوء على الخطأ وهو يعلم أن هذا يسبب له الأذية. وهؤلاء ما يقدمونه من أفكار وإبداعات ليس سوى بذار ستنبت وتتحول إلى ربيع في يوم ما، قد يكون قريباً أو بعيداً. يستطيع البقية، وخاصة أصحاب النفوذ، أن يجعلوا الربيع أكثر قرباً من خلال البحث عن هؤلاء المختلفين "الفدائيين" ورعايتهم وحمايتهم وتبني أفكارهم.

 

التعليقات (1)

    عبدالله

    ·منذ سنة 11 شهر
    موضوع مهم عولج بطريقة رائعة
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات