قدر الياسمين: الحب في سرديات مناطق النظام.. ماذا يكتب الشباب هناك؟!

قدر الياسمين: الحب في سرديات مناطق النظام.. ماذا يكتب الشباب هناك؟!

تتسربل بعض كتابات الشباب في مدن سيطرة النظام بالتعميم العاطفي الإنشائي الطابع، ذي البنية الزهيدة من الناحية الفنيّة، والمتّسمة أيضاً بقلّة التجريب من الناحية التقنية لجهة بناء الحبكة وإدارة السرد وغنى الشخصيات. فأدب الشباب إن جازت تسميته على هذا النحو يبدو في تلك المناطق أشبه بسرد تعتيميّ فصامي عن الغنى الواقعي الذي التحق بحياة الناس منذ بداية الثورة السورية، والدروب الكثيرة التي يمكن أن تلهم حبكات أدبية مهمة، لكن ما يظهر منشوراً هو خلاف ذلك، وهذا ما نجده في رواية "قدر الياسمين ألّا ينحني" للكاتبة الشابة "وعد الجغامي" التي صدرت عام 2021 ضمن سلسلة الشباب التي تتبناها دار هدوء.

 

الحب في زمن حربهم

يصاب السرد منذ بدايته بداء الإنشاء اللغوي، فالكاتبة تغرق في ترديد ما تهجس به ككليّةٍ لا شفاء منها لملامح سردها، والذي يمكن التنبؤ به وبمآلاته من خلال الصفحات الأولى للنص، فالكاتبة تفضّل أن تطلعنا على وفرة هواجسها المجرّدة وبلا مكابدةٍ منها لأي عناء في التخيّل، أو تجسيد للغة الفعل والحركة داخل الحبكة، فهي تستعيد ذكريات لقائها الأول بمن أحبّت في سهرة رأس سنةٍ مضى عليها ثلاثة أعوام، تصفه بتمهّل. تصفُ شكله، وسامته، جاذبيته للنساء، اللامبالاة التي تحكم نظراته، لكن ذاتيتها تظلُّ تصيح داخل السرد، في الصفحة 13 نقرأ مثلاً:… صباح الضباب، صباح دمعة في عيون الغيوم تأبى أن تسيل….صباح الشتاء يا نار جرحي، وكذلك نقرأ في الصفحة 17:…لكن نظراته الساحرة بقيت وشماً بدوياً على قلبي…

ثم يمضي السرد إلى حصةٍ جديدة من الذكرى، فنعود إلى الوراء إلى لقاء البطلة، بحبيبها مصادفةً مرتين، ونشوء حوار طويل بينهما امتدّ على أربع صفحات، فلا شخصياتٌ تزوّد الحبكة بغنى التكوين، ولا سردٌ شيّق يتجول بين انحناءاتها المفترضة، لم نلحظ إلا شخصية ريم وهي صديقة مشتركة بين البطلة والبطل، ودانيال صديق البطلة المقرّب وهو فنان تشكيلي، إذ لا مخيلة تُثري ذاك الفضاء المحدود، الضيق لبناء السرد وحبكته.

 

عقدة تقليدية لحبكة ركيكة

تهرّب البطلة من قلق الأسئلة الوجودية التي امتهنت ملاحقتها منذ ظهور الشاب الذي بدأت تحبّه، ذاك المخرج السينمائي، المنتمي إلى عائلة أرستقراطية، ووالدته إيطالية الجنسية كما أخبرتها ريم. تقصد بيتها الجبلي، وتغرق مجدداً في الإنشاء الركيك، نقرأ في الصفحة 35:...كم هي رائعة هذه البلدة، ببيوتها المتواضعة، وأناسها الطيبين، وطرقها المليئة بالمحبة والعطف، وطبيعتها الخلابة التي تملأ الجوّ فرحاً وسعادة وهناء…

وفي بيتها الريفي تذرف الجغامي المزيد من الإنشاء السردي، وتدلف إلى حبكتها من امتعاض أصابها لرؤية قصرين ينشأان على أنقاض بيتين ريفيين، وتشاء المصادفة أن يكون أحد القصرين ملكاً لأهل ريم صديقتها! والآخر ملكاً لحبيبها! ثم تسترخي حبكة الجغامي الطفولية على مفاصل واهية من مصادفات طريفة القوام، وها هي تقرر نفْض غبار التعلق بذاك الشاب من دمها، فترفد وقتها بارتياد دار الأوبرا وحضور أمسيات شعرية ومعارضَ فنية، وتنجح في طباعة ديوانها الأول، وسرعان ما تلتقي مجدداً بحبيبها صدفةً، وتتوالد التفاصيل حتى بلوغ ذروة الحبكة، فبعد اعتراف الشاب بأنه يحبها تجد البطلة ياسمين نفسها بمواجهة عالم لا تنتمي إليه، بصوره المادية الجلفة المعادية لبساطة روحها، وحبيبها لم ينسجم بالمقابل مع عالم حبيبته، نقرأ في الصفحة 57:...ما أصعب أن تحب شخصاً إذا اتّحد بك سيلغيك تماماً، شخص لا تستطيع أن تعيش معه، ولا تستطيع أن تعيش من دونه، بعده يقتلك، وقربه يقتلك أيضاً، وجوده عذاب، وغيابه عذاب…

هكذا تقرّر الحبكة إنهاء هذه العلاقة القائمة على التضادّ التكويني بينهما، وتستعين الكاتبة بتابو الصورة الوصفية الجامدة لسرد لحظة الانكسار، في الصفحة 69:...كنت قبله وردةً عبقة، وصرت بعده غصناً يابساً...كنت قبله كأساً من الفرح، وصرت بعده كؤوس حزن….كنت قبله مليئةً بالحنان والدفء، وصرت بعده أرتجف من البرد…

 

دوران خائبٌ لسرد خائب    

وكي لا ينقاد السرد إلى مزيدٍ من الاستطراد الإنشائي المفتقد إلى تقنيات البناء الأدبي، تقرّر الكاتبة نقله إلى حبيبها في الصفحة 73، ومع ذلك لم تخلق الكاتبة راوياً جديداً، وإنما أعادت رؤيتها للسرد لكن بضمير قصّ مختلف، فحبيبها يروي لنا وكأنما هي التي تعود وتروي لنا. نقرأ في الصفحة 74:...كانت تنتمي لفئة الأزهار والعصافير، بينما كنت أنتمي لطبقة المخمل والحرير، كانت ترضى بقطرة مطر وشذى وردة لتبقى معي، وما كان يقنعني من الأشياء إلا أفخمها...  

وهكذا لم تختلف بنية السرد بانتقاله من ضمير هي إلى ضمير هو، فظلَّ سرد الجغامي فقير الرؤية، متّكئاً على جهة واحدة لا يبارحها، وكأنه يستدير ليعيد رواية ما حدث مجدداً، بلا امتلاءٍ، وبلا فضائل تعدّد الرواة للسرد الواحد، نقرأ أيضاً في نهاية الصفحة 83:…وحاولتْ أن تستميلني لأجوائها، لكنني شعرتُ بالملل الشديد، وببطء مرور الوقت، ثم أنني لا أستطيع أن أعيش بهذه الطريقة أبداً، وصرنا لا نلتقي إلا قليلاً…

ويمضي السرد قليل التثاقل في نهايته خلافاً لبنيته التي اتّسم بها، حيث يتزوّج حبيبها من امرأة أخرى تشبهه في المنبت العائلي وطريقة العيش، ثم يسافر معها إلى إيطاليا، وفي الصفحات الأخيرة يصير السرد تحت عنوان "اللوحة الأخيرة" وهو مقطع مكوَّن من ست صفحات يسرده صديق ياسمين، الفنانُ دانيال، ويكشف حقيقة مشاعره تجاه البطلة، ودوره في مساندتها لكي تتجاوز عثرتها العاطفية الممتدة على مدى ثلاث سنوات. 

لم تقدّم رواية الجغامي تلك أي حبكة مستلهَمة من تفاصيل حياة الشباب الواقعة داخل مدن سيطرة النظام السوري، هناك حيث يفيض العنف والفقر والمخدرات والقتل والخوف والقمع بغزارة على الجميع، بل هربت الجغامي باتجاه سرد حبّ بين مكونات متضادة لا تلتقي، وهذا هو الفصام الذي يرعاه النظام السوري ويباركه أيضاً.                    

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات