المندوب السامي الإسرائيلي في دمشق

المندوب السامي الإسرائيلي في دمشق

لطالما قال وكرر عليّ أستاذي رحمه الله مذ كنت محامياً متمرناً منذ أكثر من ثلاثة عقود خلال نقاشاتنا في مكتبه حول الأوضاع العامة والسياسات التي تمارسها الطغمة الحاكمة في سوريا إنه: (من المستحيل ألا يكون ثمة مكتب خاص في القصر الجمهوري تصوغ فيه مجموعة من صنّاع القرار الإسرائيليين كل السياسات والقرارات الحكومية والإجراءات الإدارية في مختلف مؤسسات الدولة السورية، فلا يُعقل ألا يكون وراء كل هذا التخريب الممنهج لكل شيء في سوريا من التعليم إلى القضاء إلى التشريعات إلى النقابات والأحزاب إلى المنظومات الصحية إلى البلديات... الخ، إلا مثل تلك المجموعة، وبالتالي فبلدنا وأوضاعنا تدار بقرارات إسرائيلية لكن بأدوات محلية) ورغم قناعتي آنذاك بعدم صحة الناحية الشكلية للرواية التي كان يعتمدها أستاذي - وكان ذلك يستفزّه أحياناً - إلا أني حقيقة مؤمن مطلق الإيمان بصحة المضمون. 

فحجم الكارثة التي ألمّت بسوريا منذ سطت مجموعة من العسكر على الدولة فجر يومٍ آذاري عام 1963 حتى الآن، كبيرة ومدمّرة على مختلف المستويات الوطنية حيث لم يكتفِ أولئك المتنطعون بالشعارات باستئصال فئات وقوى مجتمعية واقتصادية وازنة ولها دور وطني في صناعة الاستقلال ووضع حجر الأساس لدولة عصرية تتمتع باقتصاد قوي وحياة برلمانية وسياسية مهمة وتهميشها وإجبارها بالتضييق والإفقار والقرارات الاقتصادية الظالمة على مغادرة البلاد، وإنما بدأت بالتأسيس للدولة البوليسية وتأميم العمل السياسي وإغلاق الفضاء العام أمام كل السوريين على مختلف توجهاتهم وانتماءاتهم لصالح طغمة عسكرية وفئة سياسية واحدة أناطت بنفسها إدارة شؤون الدولة والمجتمع وفق مصالحها لا مصالح العموم، متوارية وراء شعارات تافهة تعبّر عن مراهقة سياسية أفضت في أحد وجوهها إلى كارثة وطنية تمثلت باحتلال إسرائيل لجزء من أرض سوريا، وفي وجوهها الأخرى إلى تفكيك البنية المجتمعية السورية وعزل المجتمع السوري عن السياق الطبيعي لتطور المجتمعات بعد خنقه في قمقم الشعارات عن العدالة الاجتماعية التي أدت تجلياتها التطبيقية إلى تجويع المجتمع.

يأتي ذلك في وقت كانت فيه الطغمة الحاكمة ترفل بنعيم النهب المنظم للثروة الوطنية نفسها، وعن العداء للإمبريالية فيما كانت ذات الطغمة وكراً لعملاء تلك الإمبريالية ومركزاً لأبرز وأهم الخدمات لمشروعها في المنطقة، وعن تحرير الأراضي المحتلة بينما تم فرض الخرس الكامل للسلاح على جبهة الجولان منذ اتفاق السلام الصامت عام 1974 المعروف باتفاق فض الاشتباك الذي هندسه هنري كيسنجر ربيب الإمبريالية التي تتبجّح الطغمة الحاكمة بعدائها لها ومحاربة مشاريعها(!). 

لم يكن حافظ الأسد وابنه من بعده حكاماً منتخبين أو حتى معيّنين لحكم سوريا بإرادة السوريين.. كان كل منهما مجرد مندوب سامٍ لإسرائيل في دمشق وهذا ما تشي به أحوال سورية والسوريين في ظل حكمهما، وهذا ما عكسته مجمل السياسات والممارسات التي اتّبعها هذان العميلان والتي أفضت - حتى ما قبل الثورة والصراع المسلح الذي تلاها – إلى دولة منهكة بأوضاع اقتصادية هشّة تسيطر فيها قلة من محظيي السلطة على مختلف الموارد والأنشطة الاقتصادية بينما يرتع ملايين السوريين الشباب في دول الخليج بحثاً عن فرصة عمل لا تخلو في الكثير من الحالات من الاستغلال والاستعلاء بينما تنهش البطالة حياة عشرات الآلاف من خريجي الجامعات رغم ثراء بلدهم وتنوع ثرواتها ومواردها.

على المستوى التعليمي الكارثي فقد تحولت المدارس مع سياسة تبعيث التعليم إلى مراكز تدجين لعقول الطلبة وتم تهميش المعلمين وجعلهم في أسفل السلم الاجتماعي، وما يقال في التعليم يمكن قوله في الخدمات الصحية الأكثر كارثية وكذلك في السياسات الزراعية المزاجية التي حوّلت الفلاحين إلى أقنان وأجبرتهم على ترك أراضيهم والانطلاق إلى هوامش المدن بحثاً عن فرصة عمل تسد غائلة الجوع، أما المؤسسة القضائية العاجزة والصاغرة فحدّث ولا حرج وتكفي الإشارة إلى تبعيث أعضائها لفهم مآلاتها، فضلاً عن أوضاع البنى التحتية التي لم تستجب قط لحاجات التزايد السكاني وتركزه المديني، كل ذلك سيقودنا إلى الوصول لخلاصة تقول بوجود سياسات ممنهجة ومدروسة ومتعمدة لإفقار المجتمع وتركيعه وإذلاله ولتخريب وإفساد مؤسسات الدولة السورية وإيصالها إلى ما هي عليه الآن، فليس ثمة نتائج كارثية أكثر ممكن أن تحصل عليها إسرائيل في سوريا أكثر مما حصلت عليه الآن. 

وإذا ما انتقلنا إلى ما حدث خلال سني الثورة والصراع المسلح والذي لا أعتقد أننا نحتاج لإعادة الحديث عنه ورسم ملامح مشهديته الكارثية وطبيعة ومستوى الاستجابة الدولية الهزيلة تجاه ما ارتكب من جرائم وانتهاكات وفظاعات فيه، وما قيل وما نشر عن ضغط وتدخل إسرائيلي صريح إلى جانب خيار الإبقاء على نظام أسد الذي حافظ على حالة من الطمأنينة الكاملة لإسرائيل ولمستوطني الجولان نفسه طوال عقود باعتباره أفضل الخيارات الممكنة الضامنة لأمن إسرائيل، ندرك حينها طبيعة هذا النظام ووظيفته المحلية والإقليمية وأنه خيار إسرائيلي صرف يحظى بالاحترام والترحيب والدعم لاستمراره ووجوده بالنظر للخدمات الجليلة التي قدّمها لمشغليه.

في هذا السياق يبدو أن إسرائيل وجدت الآن أن كل الظروف صارت مهيأة لإعادة إدماج النظام المافيوي السوري في الفضاء الإقليمي الذي بسطت سيطرتها عليه تماماً حيث كشفت صحيفة "إسرائيل هيوم" مؤخراً أن إسرائيل ومنذ ثلاث سنوات مضت استطاعت عقد اتفاق مع الروس والأمريكان لدعم خطة إعادة إدماج النظام أولاً في المنظومة العربية التي عليها بدورها أن تتحمل أكلاف بعث الحياة في الاقتصاد السوري وتمويل بعض مشاريع إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية على أن يترافق ذلك مع طلب النظام مغادرة كل الجيوش الأجنبية الأراضي السورية بهدف نزع الشرعية عن الوجود الإيراني في سوريا – رغم شكوك حكومة " بينيت " بقدرة النظام السوري على فعل ذلك  -  وإنهاء ملف اللاجئين السوريين في الدول العربية - وتركيا بطبيعة الحال – وقد حظيت تلك الخطة بقبول كل الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل وهذا ما يفسر الكثير من التحركات والأحداث السياسية فيما يتعلق بالملف السوري وتفرّعاته (ما يقال عن هيكلة الائتلاف وإصلاحه(!) والحديث الذي لا ينقطع عن مسألة اللاجئين السوريين في تركيا والأردن وبعض الدول الأوروبية التي صارت تعتقد بإمكانية إعادة لاجئين سوريين لبعض مناطق سوريا بوصفها آمنة)، وأعتقد أنه سيكون هناك خطوات أخرى فيما يتعلق باللجنة الدستورية وإعادة هيكلتها وإطلاق دينامية مختلفة لعملها.

 كل ذلك يجب أن يحصل، ويجب أن يقبل به الجميع دولاً وحكومات وشعوباً في هذا المستنقع العربي الآسن، ويجب قبل كل وذلك وبعده أن يقبله السوريون أو يُجبَرون على قبوله، فإسرائيل قضت أن يكون (أسد) مندوباً سامياً لها في دمشق بعد أن كانت طوّبته أوائل الألفية الثالثة كأحد الأعضاء البارزين في ما يعرف بــــ ( فرسان مالطا ) إلى جانب طوني بلير والرئيسين بوش الأب والابن والأخوين جوزيف وتيد كينيدي وملكة بريطانيا وخوان كارلوس ملك إسبانيا السابق.. ويبدو أن لا رادّ - حتى الآن – لقضائها! 

 

التعليقات (3)

    HOPE

    ·منذ سنة 11 شهر
    بعد 53سنه من حكم هذه العائله الفاسده المجرمه الحاقده بحق سوريا والنتيجه التي وصلت اليها البلاد لا يقول عكس الواقع الحاصل الا من لا يرى ولا يسمع ولكن يستفيد و يشارك في المجزره السوريه!! 53 سنه من السرقه و القتل والافساد في الاخلاق و كل القيم الوطنيه السوريه !!! ما فعلته هذه الطغمه الحاكمه لما قدرت على فعله اسرائيل لو احتلت سوريا سنة 1967.

    جلجامش بن اوروك

    ·منذ سنة 11 شهر
    ياسيدي لا يحتاجون لوجود اسرائيليين فهم ماسون او صهاينة اعلى مرتبة من الحكومة الصهيونية نفسها

    Adam

    ·منذ سنة 11 شهر
    مستقبل الطائفة النصيرية الرجوع إلى الإسلام أو النفي إلى سيبيريا لأنه في الحقيقة هم كانوا من السنة فجاء محمد بن النصير من فارس وغسل أدمغتهم وخدعهم فأصبحوا يؤلهون علي.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات