في الذكرى السادسة والسبعين لجلاء الفرنسيين عن سورية: حكايات الجلاء الحزين!

في الذكرى السادسة والسبعين لجلاء الفرنسيين عن سورية: حكايات الجلاء الحزين!

تمرّ الذكرى السادسة والسبعون لجلاء الفرنسيين عن سورية في صمت ولا مبالاة، وخصوصاً بالنسبة لجيل الشباب. الصحفي والكاتب المخضرم صبري عيسى، ابن دير الزور، استعاد حكايات الجلاء الحزين، في ثلاثة نصوص نشرها على صفحته الشخصية على (فيسبوك)

 

عيد الجلاء في دير الزور 

في ذكرى الجلاء أستعيد بوست نشرته منذ سنوات عن احتفال عيد الجلاء في دير الزور الذي كان بحق العيد الوطني الوحيد في تاريخ سورية الحديث، وكانت الفرحة تعم كافة أرجاء الوطن ويسبق يوم العيد استعدادات تشارك فيها كل الفعاليات الشعبية والرسمية في المدينة،  وكان لعيد الجلاء في خمسينات القرن الماضي نكهة خاصة لا زالت تسكن الذاكرة، وأذكر أنني كنت تلميذاً في مدرسة خالد بن الوليد التي تقع في منطقة الجبيلة، وكان الذهاب إليها والعودة منها يقتضي عبور مقبرة البعاجين، وكنا كباقي مدارس دير الزور نستعد للاحتفال بعيد الجلاء والاشتراك بالعرض العام الذي تشارك فيه كل الفعاليات الرسمية والقطاعات الشعبية في المدينة، وكان الاستعداد للمشاركة في العرض يأتي مبكراً قبل شهر من العيد، ويقوم تلاميذ صفوف الرابع والخامس الابتدائي بالذهاب للملعب البلدي أيام كان موقعه مقابل ثانوية الفرات، وكنا جميعاً نزهو بلباس الكشافة المميز، وكان التدريب يجري بعد ظهر يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وعلى العزف الموسيقي لفرقة الجيش التي يرأسها المرحوم علي السمير، وكان يجري تدريبنا على المشي المنتظم على إيقاع الموسيقى، وكان يشرف على تدريبنا أساتذة الرياضة الأجلاء الذين لا يزالون يسكنون ذاكرتنا بمودتهم ورعايتهم لنا، وأذكر منهم الأساتذة عبد العزيز عزاوي، وعلاء نيازي، وصالح نجار، وآخرين لم تعُد الذاكرة تساعدني في ذكرهم.

وكانت خطواتنا تتوافق مع إيقاع الموسيقى العسكرية وتتطلب أن يكون رفع الرجل اليمنى على صوت الطبل الكبير العالي، ومن يخطئ يتم إخراجه من الملعب والاستغناء عنه، وبهذا يتم غربلة المشاركين حتى يصل عددهم إلى حوالي النصف، وكان الأهالي والناس يأتون للفرجة على أولادهم.

في يوم العرض يتحول الشارع الرئيسي في المدينة (شارع بغداد) إلى كرنفال حقيقي بدءاً من ثانوية الصناعة غرب المدينة حيث بداية العرض حتى آخر الشارع في شرق المدينة.

كل أهالي المدينة يحتشدون في الشارع الرئيسي ويتدافشون للوقوف في الصفوف الأولى لرؤية أولادهم، ووسط زغاريد النساء والفرح الذي يعيشه كل أهالي دير الزور، كان العرض يمشي ببطء وتشارك فيه كل فعاليات المدينة وكانت صفوف القطعات العسكرية مع آلياتها تسير في نهاية العرض وسط حماس الناس وهتافاتهم الحماسية التي تعكس الانتماء لسورية والتعبير عن الفرح بعيد الاستقلال وجلاء المستعمر عن أرض الوطن.

رسالة إلى شهداء الجلاء في عيد الجلاء

أستميحكم عذراً وأنا في غاية الخجل، وأنا أستعرض بطولاتكم التي حقّقت لنا الاستقلال الذي لم نحافظ عليه، في أيامكم كان لنا عدو واحد وهو المستعمر الفرنسي، وبعد 76 عاماً من اليوم الذي تحقق فيه الجلاء على أيديكم أصبح لدينا أكثر من مستعمر وأكثر من محتل يجثمون على أجزاء غالية من الوطن الحر الذي تركتموه لنا، ومع ذلك أشعر بالخزي والعار من المشهد الآن وسورية تمر في أخطر مراحل تاريخها وهي مهددة من الفرس والروس والأمريكان والأتراك والإرهاب المتعدد الجنسيات ومن كل أشرار العالم، والعالم يفرض الحصار الجائر على شعبها الذي يعاني من الجوع والغلاء والخوف، ومع ذلك أقرأ وأشاهد وأسمع بهذه المناسبة بيانات حماسية مكررة من جهات رسمية وحزبية تشيد بأهمية الجلاء ومعانيه أشبه بمواضيع الإنشاء التي كنا نكتبها في المرحلة الابتدائية، وأخجل من عرضها في هذا السياق! 

أتخيل لو حدثت معجزة وأتيحت لكم العودة إلى الحياة لساعة واحدة، ورأيتم ماذا يجري في وطنكم الآن لبصقتم على وجوهنا، وعدتم إلى المثوى الذي جئتم منه، لأننا لم نحافظ على الأمانة الغالية وفرّطنا بالوطن الذي تركتموه لنا حراً مستقلاً عن الاستعمار الفرنسي. 

في ذكرى الجلاء الغالي أرفع لأرواحكم كل تقدير ومحبة وعرفان بتضحياتكم، وأتمنى من الذين ينظّمون البيانات الحماسية في ذكرى الجلاء، وبنفس الوقت يغمضون عيونهم عن الوجود الأجنبي على أجزاء من الوطن أن يعودوا إلى رشدهم، ويدركوا في النهاية أن الوطن غالٍ وهو الأبقى!

 

موكب فخامة رئيس الجمهورية على سيارة مكشوفة وإلى جانبه دولة رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع السيد سعد الله الجابري، أثناء الاحتفال بالجلاء العظيم في شارع شكري القوتلي 

عيد الجلاء الحزين  

عاش السوري أكثر من نصف قرن محروماً من حقوقه، وبقي تحت وصاية الحكومات المتعاقبة، وعاش حياته مغلقاً ومنغلقاً عن كل ما حوله، ولم يكن له رأي في كل ما يتعلق بشؤون حياته، الحكومات المتعاقبة كانت (حريصة) على التدخل في حياته والتحدث باسمه، وكانت تتدخل بكل التفاصيل الصغيرة الخاصة به، وكان الخيار الوحيد الذي منحته له هو أن يقول (نعم) ويصدّق كل ما تقوله له، وكان عليه أن يشارك في مسيرات التأييد ويشيد بالسياسات الحكومية، ويعبّر عن ابتهاجه وفرحه في مناسبات زيادات الرواتب والمنح النقدية في الأعياد، ويرفع الشعارات التعبوية انتصاراً للقضايا القومية، ويعلن مشاركته فرحاً في (مناسبات مثل 8 آذار و7 نيسان والتشرينين) ويقف في طابور طويل كل شهر أمام بوابات المراكز الاستهلاكية للحصول على مستحقاته من السكر والرز وبعض المواد الأخرى، وينتظر إشعارات تكامل على بطاقتها الذكية حتى يسرع للوقوف في طوابير الذل كل صباح، ونعجز عن شراء مازوت التدفئة، وعن الخروج من بيوتنا بسبب غياب وسائل النقل لعدم وجود المحروقات، ونعيش اليوم معاناة الغلاء والفساد والجوع  ونحلم بالحصول على جرة غاز وأوقية لحمة أو نصف فروج، ولا نعرف ماذا سنعاني في عيد الجلاء القادم!


- لقراءة مقالات أخرى في هذه السلسلة اضغط على الرابط التالي:

مقالات سورية مختارة 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات